عن قيود سحب الدولار وحساسية صناعة القرار في مصر

- ‎فيمقالات

  بقلم  /مصطفى عبد السلام 

في القضايا الخطيرة والمهمة لا بد أن يتم اتخاذ القرار على أعلى مستوى، وبعد دراسة متأنية، وطرح وافٍ لأسباب القرار، واختيار الوقت المناسب لتطبيقه، وحساب الربح والخسارة، تزداد تلك الحساسية في القرارات المتعلقة بالقطاع المصرفي والمالي سواء ارتبطت بأموال المودعين، بما في ذلك سحب الدولار النقدي، أو اتجاهات أسعار الفائدة والصرف وإدارة السياسة النقدية بشكل عام، فكل دول العالم تتعامل مع القطاع على أنه بالغ الحساسية، وبالتالي يجب أن يتم وزن القرارات الصادرة عنه أو المتعلقة به بميزان الذهب وربما البلاتين والمعادن النفيسة.

 

لنأخذ على سبيل المثال الكلام الأخير المتعلق بمطالبة البنك المركزي المصري المصارف بوضع حد أقصى للسحب النقدي اليومي والشهري بالعملات الأجنبية، ومنها الدولار طبعا، بداية من أول سبتمبر 2024.

 

بدأ الأمر بخبر نشرته مواقع معروفة وليست صحفا صفراء أو وسائل إعلام تعمل من تحت بئر سلم، الخبر كان نصه: “البنك المركزي يوجه كل البنوك العاملة بمصر لوضع سياسة داخلية لحدود السحب بالعملات الأجنبية، بحسب وضع حجم العملات المتاحة لدى كل بنك، على أن يحصل على موافقة مجلس إدارة البنك عليها ويرسلها للمركزي بحد أقصى 30 أغسطس الجاري”.

وسبق نشر الخبر مباشرة تواصل قيادات مصرفية مع وسائل إعلام لإبلاغها بالفعل بصدور القرار عن البنك المركزي، أي أن البنوك ملزمة بتطبيقه.

 

وبعدها جاء رد الفعل الطبيعي من البنوك، وهو أن مواقع إخبارية نقلت عن قيادات مصرفية قولها إن قرار المركزي قد صدر، وأن بنوكها تدرس بالفعل وضع حد أقصى للسحب النقدي اليومي والشهري بالدولار والعملات الأجنبية بشكل عام بما يتوافق مع الإجراءات المصرفية التنظيمية الصادرة عن الجهات الرقابية، أي المركزي، بداية من أول سبتمبر المقبل.

 

الكلام والترتيب منطقي والخبر الأصلي المتعلق بفرض المركزي قيوداً على السحب بالنقد الأجنبي لم يبدأ بشائعة كما ردد بعض صناع القرار، بل نسبت المواقع القرار للبنك المركزي مباشرة ونقلاً عن قيادات مصرفية أيضاً، لكن بعدها توالت ردود الفعل السريعة والمتناقضة والمتشنجة أحياناً، فصدر بيان عن البنك المركزي قال فيه إن حدود صرف العملات الأجنبية في البنوك متروكة لكل بنك لتحديد سياسته بشأنها، واعتمادها من مجلس إدارته، أي أن البنك نفى صدور قرار عنه بهذا الشأن.

 

وبالتوازي مع هذا النفي، خرجت علينا قيادات مصرفية مؤكدة أن البنوك تدرس حالياً وضع حدود قصوى على تعاملات السحب النقدي اليومي للعملات الأجنبية بأنواعها المختلفة مثل الدولار واليورو والجنيه الإسترليني سواء للأفراد أو الشركات في إطار الإجراءات التنظيمية والتعليمات الرقابية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب دون وضع قيود على التحويلات، وقال محمد الإتربي، رئيس بنك مصر ورئيس اتحاد بنوك مصر، إن مجلس إدارة البنك الحكومي سيناقش الأسبوع المقبل وضع حد أقصى للسحب النقدي بالعملات الأجنبية للأفراد والشركات.

هذا الأمر أوقع الرأي العام المصري في حيرة شديدة، فهناك دراسة جدية من البنوك بوضع قيود على سحب النقد الأجنبي بغض النظر عن صاحب القرار، البنك المركزي أم البنوك نفسها، وهو ما أعطى انطباعا بوجود أزمة نقد أجنبي لدى القطاع المصرفي أو تجددها، عكس ما يروج له من وجود سيولة دولارية ضخمة لدى البنوك، وتحول العجز في أصول النقد الأجنبي إلى فائض لمدة ثلاثة شهور متواصلة، أو على الأقل أن التعديلات الجديدة تستهدف الحد من نقد الدولار الخارج من البنوك.

 

من حق البنك المركزي أن ينظم أداء القطاع المصرفي باعتباره الرقيب عليه بما يضمن المحافظة على الاستقرار النقدي وسوق الصرف الأجنبي، ومن واجب البنوك الالتزام بكل ما يصدر عن البنك المركزي صانع ومدير السياسة النقدية، ومن حقها أيضاً ترتيب وتنظيم إجراءات سحب البنكنوت سواء المحلي أو الأجنبي، هذا هو العرف المعمول به عالميا.

 

كما من حقنا أن نسأل: هل الوقت مناسب لإصدار مثل هذه القرارات التي تثير قلق المتعاملين مع البنوك أكثر مما تطمئنهم؟ وإذا كان البنك المركزي يريد البقاء بعيداً عن تلك القضية بالغة الحساسية من منطلق أنها شأن داخلي للبنوك ولا علاقة له بإدارة السياسة النقدية، فلمَ أقحم نفسه من البداية ولم يترك الأمر للبنوك لتحديد السياسات المتوافقة مع إدارتها للأموال والسيولة التي بحوزتها؟

 

المودع في مصر ليس فأر تجارب، خاصة في تلك المرحلة الحرجة التي نحاول فيها طمأنة المدخرين على أموالهم المودعة لدى البنوك، وإعادة الاستقرار لسوق الصرف الأجنبي والقضاء على السوق السوداء للعملة للأبد.