قلم: الفاتح الحسن المهدي
لا يزال العالم يشاهد نازيين جُدد أسميناهم هنا بالنازيين السُمر، وهم يرتكبون كل يوم يمر منذ أبريل 2023، أهوالاً وفظائع.
تُحيي منظمات الأمم المتحدة والضمير العالمي، في 27 يناير من كل عام، ذكرى ضحايا الهولوكوست، وتؤكد مجددا التزامها القاطع بمكافحة معاداة السامية والعنصرية وسائر أشكال التعصب التي من شأنها إثارة العنف ضد جماعات مستهدفة، ولكنها ـ في خضم التجاهل الدولي لما يجري في السودان حالياً ـ قد تتناسي نازيين من السمر الجدد في السودان يختلفون لونًا ولكنهم يمارسون كل أنواع العنف والتوحش ويُعمِلون كل وسائل الاستبداد والتوسع الإجرامي المحمي دون عقاب أو رادع في مواجهة فئات كبيرة من شعب أعزل.
مثلت حروب الدعم السريع منذ أبريل 2023، تحديًا وجوديًا للسودان الدولة وهددت كيانها المضطرب الذي لا يكاد يطفي نيران حرب داخلية حتى تشتعل أعواد ثقاب حرب جديدة مختلفة الدوافع والأجندات.
جاءت حروب الدعم السريع مختلفة نمطًا وحيث صممت لتُخاض حربًا داخل المدن وبين السكان المدنيين الذين أتخذتهم دروعًا لحربها المقدسة متحدية كل أخلاقيات الحروب؛ حيث تتجاوز مواجهة أماكن الجيش والقوات الأمنية ـ كطرف ـ إلى الاستهداف المتعمد لكافة المواطنين في سلوكٍ لم يسبق له مثيل حتى الحرب التي دارت رحاها لعقود وتحديداً بين 1983 و2005 بين الحركة الشعبية المتمردة الرئيسية في الجنوب ـ آنذاك ـ التي كان غالبية جنودها مسيحيون ولادينيون، بمقارنتها بقوات (أي الدعم السريع) تدين بالإسلام وتدعو إلى العروبة والبحث عن الديمقراطية لكن تحت شلالات الدم والدموع والآلام والمآسي.
النازيون السُمر الجدد
ينظر النازيون إلى العالم أنه مقسم إلى أجناس متنافسة يناضل كل منهم من أجل البقاء والهيمنة ويعتقدون أن الخصائص الفطرية الموروثة بيولوجيا تحدد السلوك البشري، كما يذهب مذهبهم العنصري إلى أن الدم من يحدد الهوية القومية العرقية.
وتأسيسًا على ذلك، تتطابق خطاب الدعم السريع معهم تجنيدًا وتحشيدًا وكشف عن سعي مبكر رغم دعاوي الخطاب المخادع عن الانتقال الديمقراطي لبناء دولته علي أساس إثني ضيق جدًا (دولة العطاوة) وهي دعاوى تماهى معها قيادات المجتمع الأهلي التي تنتمي إلى “الجنيديين” القادمين من محطات مختلفة، وكذلك استدعي إليها، المناصرون من المهاجرين من دول الساحل والصحراء في تشاد والنيجر ومالي وأفريقيا الوسطي حيث ازدهت تلك المجموعات بالانتصارات الأولى وجبال “الغنائم” المخواة غصبًا من عرق جبين السودانيين وكدهم وتعبهم لعشرات السنين مما استفزّ المشاعر الإنسانية والوطنية الجريحة وطعن كريم المعتقدات والأخلاق في مقتل.
الغيتو والإفقار الممنهج
“الغيتو” هو إسم الحي اليهودي والتي أجبرت السلطات اليهود علي العيش فيه واعتبرته منطقة مغلقة خاصة بطائفة وأجبرتهم علي العيش في ظروف قاسية وفصلْهم عنصريًا ووضعهم تحت المراقبة في انتظار الحل النهائي؛ والذي هو برنامج للقتل والتدمير المنظم ورميهم في حفرة كبيرة بعد رميهم بالرصاص أو ترحيلهم عبر القطارات إلى مراكز القتل حيث يلقون حتفهم الأخير بلا وداع عبر وحدات القتل المتنقلة ويتم استدعاؤهم إلى الموقع وإجبارهم علي خلع ثيابهم وإرغامهم علي الدخول إلى الوادي وحفر مقابر جماعية فكانت مذبحة كليس التي أدت إلى هجرة كل اليهود من ألمانيا هروبًا من المذابح وغيرها من الأحوال والفظائع.
كأنما كانت قوات الدعم السريع تقرأ من كتاب تاريخ ممارسات الهولوكوست وتوزعه إلى جنودها المتوحشين؛ إذ كانت تهاجم القرى وتقوم بإغلاق طرقها لعدم مغادرتها، وأن يرغم سكانها قسريًا على القيام بدفع تكاليف إدارة مناطقهم ودعم هذه القوات بالمال والشباب، إضافة إلى معاناة هائلة للسكان والعقاب الجماعي، وكأنما كانت قوات الدعم السريع تقرأ من كتاب تاريخ ممارسات الهولوكوست وتوزعه إلى جنودها المتوحشين؛ من الجوع ونقص الغذاء والرعاية الصحية وانقطاع الاتصالات وخدمات الكهرباء لفترة تجاوزت العام في جل مناطق البلاد التي تأثرت بالحرب.
إضافة إلى ذلك، وفي خضم تلك السياسات النازية، بدأت المليشيا المتمردة بإفقار القرى ونهب ممتلكات المواطنين واستهدفت الممتلكات الخاصة ودمجتها في أهدافها العسكرية وخططها الميدانية لجذب واستقطاب المقاتلين عبر الإغراء بـ “التغنيم”، أي وعدهم بالغنائم التي يحصلون عليها كحافز في حد ذاته! حيث نهبت كل شيء ووسمت أسواق المنهوبات بأسم قائدهم (أسواق دقلو) الذي يمثل وصمة عار لا مدعاة للفخر.
ونتيجة لذلك، انتشرت في كل دول الساحل، كما تمددت عمليات النهب المنظم والواسع النطاق، لتطال الرأسمالية الوطنية والبنوك والمصانع والمستشفيات ومن ثم إضرام النيران فيها بعد نهبها مما جعلها أفرغ من فؤاد أم موسى!
علاوةً على ذلك، لم تسلم البنى التحتية ـ التي شُيدت عبر تراكم الحقب المختلفة وبقروض لاتزال تثقل كاهل السودانيين ـ فدمرتها، هذا ما يجعل المواطنين ـ ممن كُتبت لهم النجاة من القتل والسحل الذي يمارسه جنود الدعم السريع علي امتداد رقعة سيطرتهم ـ أمام بدايات جديدة من الكد والجهد في سبيل تأمين مصادر الرزق وإعادة بناء سبل العيش، إذ حولت سياسات المليشيا الإجرامية كافة المؤسسات والأعيان المدنية إلى مدن للأشباح.
فالمأساة أن الغالبية العظمى من سكانها قد أجبروا على الفرار والنزوح فنُهبت ودُمرت تلك المؤسسات والأعيان، ولم يعجز عناصر وقادة المليشيات بعد على ما يبدو ـ وتندراً وسخرية ـ من العثور في هذه الأماكن المدنية علي الديمقراطية أو فوق جماجم البسطاء التي توحشت في البطش والتنكيل بهم.
الهولوكست المتوحش
فما أكثر المناصرين من القوى المدنية الذين خدعتهم لافتات الدعم السريع البراقة التي رفعتها هذه القوات، التي ولغت في أنهار من الدماء واستباحت القرى النائية الوادعة والمدن الآمنة، وارتكبت شتى صنوف التنكيل بالمواطنين، وطلبت الفدية مقابل إطلاق سراح الرهائن والمحتجزين، متجاهلة القانون الدولي وغير آبهة به، وموثقة جرائمها بنفسها كما لو أنها لا تخشى العقاب أو العواقب، وكأنها تمتلك رخصة للقتل المجاني، فلجأت هذه المليشيا إلى سياسة الأرض المحروقة في محاولة لكسر عزيمة السودانيين، فلطخت أياديها بمزيد من الدماء المسفوحة على الطرقات وأطراف القرى الوادعة، فارتفعت أعداد الضحايا بالآلاف ومثلهم من الجرحى والمفقودين والمختطفين والمخفيين قسريًا في مأساة إنسانية ذكرت السودانيين بحملات الدفتردار الانتقامية إثر مقتل الخديوي إسماعيل باشا، وحملات خليفة المهدي عبد الله التعايشي لتأديب الرافضين لحكمه وعسفه في فترة الدولة المهدية، والتي مارستها ذات قبائل العطاوة، وكأن التاريخ يعيد نفسه بعد قرن من الزمن.
وزادت هذه الأحداث من عمق الجراح وتهدد بنسف كل دعاوى التعايش بين المجموعات الإثنية في السودان، وأطاحت هذه المليشيا بكل مشروعات مناصريها السياسيين من مجموعة “تقدم” والقوى المدنية التي تحالفت معها بهدف تجميل صورتها، ولكنها عجزت عن ذلك رغم خطاب قائد القوات عن “الخطة ب” والتي ترجمتها قواته إلى المزيد من الوحشية في طرد السكان والتنكيل بهم بالعقاب الجماعي والعنف المفرط، مستخدمة أساليب النازيين في التهجير القسري والطرد والترحيل وإطلاق النار عشوائيًا في مذابح جماعية باستخدام الأسلحة الثقيلة، مما دفع الأمين العام للأمم المتحدة ومسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي إلى إدانة هذه الجرائم والتبرؤ منها، معبرين عن صدمتهم من الجرائم الوحشية الفظيعة بحق المدنيين.
لا تحتفظ هذه القوات بسجلات رسمية للمعتقلين أو المخفيين قسريًا، ويختلط في سجونها العسكريون والمدنيون والأطفال والنساء، وتستخدم إدارة المعتقلات سلاح التجويع، مما جعل السجون مسارح لأشباح مات الكثيرون منهم بمضاعفات الجوع، وخرج بعضهم هياكل عظيمة تجسد بشاعة جرائم النازيين السمر، مما يجعل من “غولاقها” ثقبًا أسود يبتلع الآلاف من الضحايا الأبرياء، وفي هذا الإطار، برز اسم عمر شارون، الذي يلقب نفسه بـ”شارون”، قائدًا لعمليات السحل والقتل الميداني، وقاهراً لرموز المجتمعات الريفية في مناطق شمال الجزيرة مؤخرًا.
معسكرات وسجون الأشباح
أنشأ النازيون في ألمانيا معسكرات اعتقال أو “دولاج” بالألمانية في جميع مناطق سيطرتهم، وجرى توسيع هذه المعسكرات لاستيعاب السجناء السياسيين ومعارضي النظام وأعدائه، حيث بلغ عددها ٤٤٠٠ سجنًا، واستخدم فيها الاحتجاز القسري على أساس الهوية الإثنية أو الدينية، وسميت بمحتشدات الإبادة، حيث كان نزلاؤها يحشدون معًا ليموت الآلاف منهم بسبب الإجهاد والجوع والبرد والمرض.
وبالمقارنة، فقد طابقت مواصفات معسكرات الإبادة والاعتقال معسكرات وأقبية سجون الدعم السريع، حيث تنتشر مئات مراكز الاحتجاز غير المعروفة بسياسات أكثر تطرفًا من النازيين، ويتم فيها جمع الآلاف من المدنيين والعسكريين في مراكز اعتقال وسجون، بعضها مقار عسكرية وبعضها مباني حكومية، وبعضها في منازل بأحياء سكنية تعاني من انعدام التهوية وارتفاع الرطوبة وغياب الخدمات الأساسية وافتقار المرضى إلى الرعاية الطبية، مما أدى إلى انتشار الأمراض بسبب ضيق المساحات، وانتقلت الفيروسات بين السجناء الذين تعرضوا لنظام استجواب قاسٍ مثل الصعق بالكهرباء، وإطفاء أعقاب السجائر على أجسادهم، وتعليقهم من الأرجل، وتوجد مشانق في بعض المراكز، مما أسفر عن وفيات لا حصر لها.
والأدهى من كل ذلك، أن هذه القوات لا تحتفظ بسجلات رسمية للمعتقلين أو المخفيين قسريًا، ويختلط في سجونها العسكريون والمدنيون والأطفال والنساء، وتستخدم إدارة المعتقلات سلاح التجويع، مما جعل السجون مسارح للأشباح التي مات الكثيرون منهم بمضاعفات الجوع، وخرج البعض منهم هياكل عظيمة تجسد بشاعة جرائم النازيين السُمر، ما يجعل من “غولاقها” ثقبًا أسود يبتلع الآلاف من الضحايا الأبرياء.
وفي ظل هذا التجاهل المتعمد والتواطؤ الفاضح، لا يزال العالم يتفرج على نازيين جدد، أسميناهم هنا بالنازيين السُمر، وهم يرتكبون كل يوم منذ أبريل 2023 أهوالاً وفظائع ستظل محفورة في ذاكرة ضحاياهم كسلاح يرفعونه ضدهم ما داموا أحياءً أو أمواتًا.