بقلم /د. عبد الحفيظ السريتي
الذين اطلعوا على تاريخ غزة، يدركون كم هي عصية على الكسر والتطويع. إن غزة التي أبهرت العالم بصمودها الأسطوري أمام جرائم الإبادة الجماعية لأكثر من 15 شهرًا، لها خصوصيات تنفرد بها وتجعل منها مقبرة لمن يجرؤ على غزوها.
وغزة “هذه المدينة، اسمها محفور في ذاكرة التاريخ وجدت مع وجود الزمان، وكانت أهوال كل قتال.. كان لها في كل عهد قصة، وفي كل معركة تضحيات وشهداء، ومع كل حاكم حكاية.. كم دانت لفاتح وكم استعصت على جبار”.
غزة التي لملمت جراحها اليوم وعادت إلى ديارها رغم أن قنابل وصواريخ العدوان الصهيوني حولتها إلى ركام ودمرت منها حوالي 80% فما سقط عليها فاق بكثير ما قصفت به المدن الألمانية في الحرب العالمية الثانية.
ورغم مخلفات العدوان الصهيوني استطاع أهالي غزة بعودتهم الجماعية، إسقاط التهجير في استفتاء شعبي عارم، أذهل القريب قبل البعيد، رغم أن هؤلاء لن تجد واحدًا منهم لم يفقد عزيزًا بل منهم من فقد كل عائلته، ومع ذلك يواصل المسير فرحًا بالنصر الذي حققته المقاومة الفلسطينية التي أفشلت مخططات نتنياهو، الذي ملأ فمه بأكثر مما يستطيع مضغه حينما حدد أهداف الحرب في إنهاء المقاومة، وعودة الأسرى، ورؤية غزة بدون حماس.
إعلان
ومع أن الاحتلال نفذ سياسة الأرض المحروقة لبث الرعب والخوف لدى الأهالي لإجبارهم على الخروج من غزة نحو سيناء، إلا أن أهل غزة بنسائها وشبابها وشِيبها وأطفالها أفشلوا مخطط التهجير بصمودهم الأسطوري.
الفرحة والعودة إلى الديار المهدمة
هذه هي الحقيقة مع مشاهد الفرح والإحساس بالكرامة والعزة، تغمر كل الذين كانوا مع فلسطين ومع غزة في صدها للعدوان الذي كان يهدف لإبادة كل من يتحرك على أرض غزة المباركة، وصادمة للمحتل الذي فشل في كل أهدافه العسكرية ولم يتمكن من إحراز أي نجاح إلا في ارتكاب المجازر ضد المدنيين التي كانت سببًا في ملاحقة المجرم نتنياهو ووزير دفاعه السابق غالانت إلى المحاكم الدولية وطاردت جنود جيشه في عدد من دول العالم.
إن المشاهد المؤثرة التي نقلتها شاشة الجزيرة للأهالي وهو يتخطون ركام المنازل المهدمة ويشقون طريقهم بعناء نحو بيوتهم التي سوتها الطائرات بالأرض وكأنهم عائدون إلى قصور بديلة، هذا الشعب هو حقًا طائر العنقاء الذي يخرج من الرماد صلبًا، قوي الشكيمة، يصرع التدمير ويواجه جبروت القوة فيصمد وينتصر.
والحال أن مشاهد العودة المنتشية هي ضربة موجعة للاحتلال، وربما تكون عليه أدهى وأمرّ من المواجهات العسكرية التي أعطت فيها المقاومة دروسًا سيحفظها التاريخ ويقدمها دروسًا في المعاهد والجامعات العسكرية.
التهجير القسري أو الطوعي سقط
بعودة الأهالي إلى غزة كطوفان بشري، يكون التهجير قد سقط وانتهى معه حُلم الصهاينة في كون القتل وارتكاب الجرائم البشعة، السبيل لإرغام أصحاب الأرض على مغادرتها.
لا ينسى الشعب الفلسطيني المجازر التي ارتكبت في الـ48 والـ67 كما لا ينسى الممارسات الإجرامية من قتل وهدم المنازل والحصار الشامل والملاحقات، كل هذه الممارسات يعلق عليها الاحتلال حلم طرد الفلسطينيين من أراضيهم وحقولهم، والحال أن وثيقة سياسية للكيان الغاصب تكشف عن مخططاته الرامية وبكل الطرق لتهجير أهالي غزة نحو سيناء كخيار وحيد لإنهاء كابوس بات يحمل تهديدًا وجوديًا للاحتلال، وخاصة بعد طوفان الأقصى الذي أنهى مرحلة كان يعتقد فيها العدو أنه محصن ومحميّ من أي خطر يأتيه من الشعب الفلسطيني ومقاومته الباسلة.
إن ما تمثله غزة اليوم بانتصارها الباهر وعودة أهلها وتحرير أسراها ولعب أطفالها على رمال شواطئ غزة، يؤكد للاحتلال وشركائه أن الأرض لأصحابها وأن كل المؤامرات ستتكسر على صخرة هذا الشعب الذي رغم الألم والجراح، يستطيع تحويل الأحزان إلى أفراح. شعب يقبل على الحياة كما لا يهاب الموت دفاعًا عن أرضه وكرامته.
أهالي غزة.. صامدون هنا
ليست المرة الأولى التي يطرح فيها الرئيس العائد إلى البيت الأبيض دونالد ترامب، فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة إلى مصر والأردن. ولعل الجديد في حديثه الذي أدلى به من على طائرته، هو أن الشعب الفلسطيني وبعد أن وقف في وجه عدوان همجي أطلسي، هو الآن في لحظة حبور وعزة.
فبعد طوفان الأقصى، يشهد العالم فصول طوفان جديد مع تحرير الأسرى من سجون الاحتلال وما تركه تعاطي المقاومة مع أسرى العدو الصهيوني بشكل انتصرت فيه للقيم والأخلاق، وهو ما ترك صدى إيجابيًا لدى الأسرى الذين ودعوا المقاومين ووجوههم تنطق بالاحترام والتقدير لمقاومين التزموا بأخلاقيات الحروب حتى في عز العدوان البربري الصهيوني الذي لم يستثنِ الأطفال والنساء والشيوخ.
فالمقاومة عاملتهم بأضعاف، أضعاف حقوقهم التي يحفظها القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
وها نحن اليوم نشهد مع العالم أجمع طوفانًا بشريًا، يضع آلامه وراءه ويسرع عائدًا إلى دياره رغم أنه يدرك أن الاحتلال لا بيتًا أبقى ولا مأوى ترك. كما أن القصف ودوي الطائرات لم ينجحا على حمله لترك غزة، فهو كذلك لا يعير اهتمامًا لتصريح هنا وتصريح هناك. فأمام شعب الجبارين لا شيء مستحيلًا، يتكيف مع المعاناة ويصمد في الحروب ويواصل رحلة التحرير، ويتشبث بحقوقه غير القابلة للتقادم.
ونحن بين مشهدين متقابلين: مشاهد الفرح والنصر العظيم الذي تأكد مع عودة الأهالي على الأقدام لمعانقة ما تبقى من أُسرهم أو حتى لرفع الأنقاض عن شهدائهم والترحم عليهم. فالأحياء باقون ومستمرون والشهداء أحياء عند ربهم يرزقون.