منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض في العشرين من الشهر الماضي، لا مؤشرات في الأفق بشأن تراجعه عن مواقفه المثيرة للغضب خلف الأبواب الأوروبية المغلقة، ومنها أبواب كوبنهاجن التي تشعر بخيبة كبيرة، نتيجة علاقاتها التاريخية بواشنطن، وبأن مشاركتها في كل حروبها الخارجية تقريباً، لم تشفع لها عند ترامب وإدارته.
مشاعر الخيبة والقلق باتت منتشرة في عموم القارة الأوروبية، خصوصاً بتدهور العلاقة عبر الأطلسي بصورة لم تحدث منذ التدخل الأميركي في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) ودفاعها عن القارة خلال الحرب الباردة (حتى 1992) بوجه “الكتلة الشرقية” (الشيوعية) بقيادة الاتحاد السوفييتي، بعد تأسيس حلف شمال الأطلسي (الناتو) مظلةً معززة للالتزام الأميركي بأمن الأوروبيين والأميركيين وسلامتهم.
خلال أربعة أسابيع تقريباً، تحولت الولايات المتحدة من أفضل صديق وحليف لأوروبا إلى عدو اقتصادي، بل من وراء ظهور دولها بدأ ترامب محادثات مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين بشأن أوكرانيا.
ويمكن هنا قراءة بعض أهم السياسات الأميركية، المربكة للطرف الأوروبي والموسعة لشروخ العلاقة عبر الأطلسي هذه الأيام، مثل:
مناقشة الأميركيين لاتفاقية سلام بين روسيا وأوكرانيا، وصدمة اتصال ترامب ببوتين، من دون استشارة أو مناقشة مع الحليف الأوروبي، أي من وراء ظهر القارة، بحيث ونيابة عنهم، كما يعتقدون، تريد واشنطن فرض تنازلات واسعة لمن تصنفه أوروبا “معتدياً”، أي موسكو، وبأن ما يطرح يعد مكافأة لبوتين عن غزوه دولة ذات سيادة.
هددت واشنطن وقررت فرض رسوم جمركية على عدد من السلع الأوروبية، ما يجعل تصديرها وبيعها في أميركا أكثر صعوبة. وطالبت الولايات المتحدة بألا تنطبق القوانين “التي يتم تبنيها ديمقراطياً” في أوروبا على الشركات الأميركية.
هددت الولايات المتحدة الاتحاد الأوروبي بفرض عقوبات مالية عليه إذا قام التكتل بتنظيم أنشطة شركات التكنولوجيا الأميركية في أوروبا.
انسحاب واشنطن/ وإدارة الظهر للتعاون الدولي في مجالات مهمة مثل المناخ والصحة، وعملها على منع منظمة التجارة العالمية من العمل بشكل فعال. كذلك استهدافها للمحكمة الجنائية الدولية والطلب من جميع الحلفاء في حلف “الأطلسي” بالقيام بالمثل.
التدخل لمصلحة التطرف اليميني، وذلك بمساع واضحة من دائرته لتعزيز أحزاب اليمين المتطرف الأوروبية، ما أثار امتعاضاً وغضباً بتصريحات سابقة لمستشار ترامب، إيلون ماسك. وعبرت برلين عن الغضب نفسه اليوم السبت بعد التقاء نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس زعيمةَ حزب “البديل لأجل ألمانيا” اليميني المتطرف، أليس فايدال، مقابل تجاهله آخرين بينهم المستشار الألماني أولاف شولتز. الأوروبيون يرون المحاولة “تدخلاً سافراً” في الخريطة السياسية-الحزبية والعمليات الانتخابية في بلادهم.
أيضاً على مستوى حلف شمال الأطلسي يشعر الأوروبيون أن واشنطن في عهدة ترامب ستقوض هذا الحلف، بتراخ مقلق حيال الالتزام الأميركي بالدفاع عن القارة، وإلقاء شك حول التزام واشنطن بالمادة الخامسة من ميثاق حلف الأطلسي حول أن الهجوم على دولة واحدة يعد هجوماً على كل الدول.
وفي ولايته الأولى بين 2016 و2020، بث ترامب شكوكاً حقيقية حول دور بلاده في الدفاع عن أوروبا، ما فرض على المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون طرح فكرة استقلالية أوروبا دفاعياً عن واشنطن، وتتزايد شعبية هذا الطرح مع تزايد الغموض الأميركي بشأن حلف شمال الأطلسي في العموم، وليس فقط لناحية الصرف المالي المطلوب أن يصل إلى 5% من الناتج الإجمالي المحلي بين الدول الـ30 الأطلسية الأوروبية.
“فن الصفقات” بمواجهة “أميركا أولاً”
يحاول بعض الأوروبيين الشماليين فهم ترامب من خلال كتابه “فن الصفقات”، لكن ذلك لا يعطيهم أجوبة، خصوصاً أنهم يشعرون بابتزاز العلاقة واستبدالها عبر الأطلسي إلى علاقة أميركا بمصالحها أولاً وأخيراً. فما يقترحه ترامب لم يعد لا في نظر راسموسن الدنماركي ولا شولتز الألماني، وغيرهما على مستوى القارة، مجرد كلام. ذلك يبث بين القادة السياسيين في أوروبا شعوراً بالفشل، ومن خلفهم أجهزة بيروقراطية ضخمة، دبلوماسية واستخبارية وبحثية، تكلف الدول الـ27 في ناديهم مليارات اليورو لاستشراف وتشكيل وتبني السياسات، ناظرين بحسرة إلى تلاشي ما عقدوه من آمال على أن العلاقة بأميركا أعمق من اسم الرئيس، وبألا تصل العلاقة عبر الأطلسي إلى حضيض ما تصل إليه هذه الأيام، مع ما تحمله من تداعيات على مصالحهم وعلاقاتهم برئيس أكبر اقتصاد عالمي منذ أكثر من ثمانية عقود.
ويبدو أن الأوروبيين بصدد مراجعة خطأ قراءتهم بأن تصريحات ترامب “يجب أن تؤخذ على محمل الجد، ولكن ليس حرفياً”، كما كرر راسموسن. ويسود ما يشبه تشاؤم ودهشة الصدمة من أن تذهب العلاقة نحو الحضيض. فترامب وأركان حكمه لا يبدون في نظر الأوروبيين بمظهر الصديق والحليف التاريخي، بل على العكس من ذلك.
ومع أن فرض الرسوم الجمركية الأميركية على الأوروبيين تم تأجيل تنفيذها إلا أن شعور المرارة الأوروبي لا يمكن إخفاؤه، بعد أن وُضعت القارة عدوّاً على مستوى الصين نفسها. أما في ما يخص الأوروبين فإن مساواة قارتهم بالصين التي تعدها واشنطن عدواً منافساً من حيث فرض تعرفات جمركية أمر ينذر بمقدمات انهيار بعض ما تم البناء عليه في العلاقة عبر الأطلسي واستبدالها بحروب تجارية خطيرة، مع تأكيد رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولا فون دير لاين، الرد بفرض رسوم جمركية على السلع الواردة من أميركا.
في كل الأحوال، مهما كانت رياح العلاقة عبر الأطلسي، مع صعوبة استخدام الأوروبيين لأي فن من فنون كتاب ترامب (فن الصفقات) للتفاوض معه، مع إصراره على تنازلات لمصلحة “أميركا أولاً”، فمن الواضح أن الشروخ التي تتوسع بين الجانبين تعطي مؤشرات أن خلف أبواب القارة المغلقة، وفي كواليس دبلوماسيتها، بات الشعور واضحاً بأن شيئاً ما خطيراً يحدث على مستوى التحالف الاستراتيجي بين أوروبا وأميركا.