رغم تمديد العمل بقانون التصالح في مخالفات البناء للمرة الثالثة على التوالي، يتواصل عزوف ملايين المصريين عن التقدّم لتسوية أوضاعهم القانونية، في مشهد يعكس رفضاً شعبياً متزايداً لما يصفه كثيرون بـ"الابتزاز الرسمي المقنّن" تحت شعار التنظيم العمراني. فمنذ صدور القانون لأول مرة عام 2019، لم يتحوّل إلى وسيلة لتنظيم البناء العشوائي كما زعمت حكومة المنقلب السيسى، بل بدا أنه مجرد وسيلة لتحصيل رسوم مرهقة تصل إلى آلاف الجنيهات مقابل وعود فارغة، وهو مافاقم شعور المواطنين بأن الدولة لا تسعى إلا إلى استنزاف جيوبهم. رسوم مُبالغ فيها وإجراءات مُعقّدة ينص القانون على دفع رسوم تبدأ من 50جنيهاً وتصل إلى 2500 جنيه لكل متر مسطح، أي ما يعادل نحو 50 دولاراً للمتر في بعض الحالات، وهو رقم فلكي في بلد يعاني فيه الملايين من الفقر والبطالة وتدهور مستوى الدخل، ورغم الترويج الحكومي لتسهيلات مزعومة، تبقى الإجراءات المطلوبة شديدة التعقيد، من خرائط مساحية وموافقات نقابات واستشاريين، ما يحول دون استفادة المواطن العادي. المعلمة عبير محمد من البحيرة، تروي أن والدها دفع رسوم التصالح منذ عام 2020، دون أن يحصل على أي سند قانوني، قائلة: "أعطونا إيصالات دون جدوى، والملف حبيس الأدراج"، أما أحمد جمال من الإسكندرية، فسخر قائلاً: "أسكن منذ 10 سنوات، فما الذي يدفعني الآن لدفع آلاف الجنيهات وخوض متاهة الورق؟". انعدام الثقة السبب الأهم يرى مراقبون أن السبب الجوهري وراء ضعف الإقبال هو فقدان المواطنين للثقة في نوايا النظام، بعدما حوّلت الحكومة التصالح إلى مصدر دخل إضافي، لا أداة لحل الأزمة، النائب السابق حسن خير الله اعتبر أن القانون فشل في تحقيق أهدافه، بسبب اعتماده على "بيروقراطية مترهلة"،وتسرّع الحكومة في الإعلان عن النجاح دون تسوية حقيقية لملفات قديمة، ما جعل المواطنين يرونه أداة للجباية لا للتنظيم. جبابة لا تسوية.. وأعباء بلا مقابل رغم أن الهدف المُعلن هو دمج الاقتصاد غير الرسمي وتنظيم البناء، إلا أن الأداء على الأرض يكشف عن عقلية ترى في المواطن مصدراً للتمويل لا شريكاً في التنمية، فبدلاً من تقديم حلول واقعية تراعي الظروف الاقتصادية الصعبة، أصرّت السلطات على فرض رسوم مرتفعة ومعايير مشوشة، دون تقديم ضمانات قانونية أو خفض الرسوم بما يتناسب مع دخول المواطنين. الخبير الهندسي محمود بسيوني دعا إلى حسم ملفات التصالح القديمة قبل استقبال طلبات جديدة، وربط الرسوم بمستوى دخل المتصالح، مؤكداً أن غياب الثقة سيبقى عائقاً جوهرياً مهما طالت المُهل الزمنية. بين ابتزاز الدولة وصبر المواطن في المحصلة، بات واضحاً أن نظام المنقلب السفيه السيسي يتعامل مع ملف مخالفات البناء كفرصة لجمع المليارات من جيوب الفقراء، بينما يتجاهل الأسباب الحقيقية للأزمة، مثل ضعف التخطيط العمراني، وغياب العدالة في توزيع الأراضي، وتجاهل احتياجات ملايين المواطنين الذين لم يجدوا بديلاً سوى البناء العشوائي. فمن لم يُهدم منزله بالجرافات، تنهكه رسوم التصالح، ومن لم يُرغم على الدفع يعش في قلق دائم من طرد أو غرامة أو إزالة، لتبقى النتيجة واحدة: الشعب يدفع الثمن، والدولة تجني الأرباح.