في الوقت الذي تواصل فيه حكومة الانقلاب تنفيذ وثيقة ملكية الدولة، تمضي السلطة بخطوات متسارعة نحو دمج الشركات الاقتصادية وتهيئتها للطرح والبيع، في واحدة من أوسع عمليات إعادة هيكلة للملكية العامة في تاريخ البلاد الحديث.
هذا التوسع في الخصخصة، والذي تصفه الحكومة بأنه “إصلاح هيكلي”، يرى فيه منتقدون تصفية تدريجية لممتلكات الدولة، وفتح المجال أمام دخول مستثمرين إقليميين ودوليين، وفي مقدمتهم الإمارات التي أصبحت – وفق تحليلات اقتصادية – اللاعب الأكثر حضورًا في عمليات الشراء، وسط تساؤلات متصاعدة حول طبيعة شبكة المصالح التي تستفيد من هذا التمكين الاقتصادي.
تحول بنيوي في ملكية الاقتصاد المصري
تطرح هذه السياسات سؤالًا جوهريًا: ماذا سيتبقى للمصريين من أصول الدولة بعد رحيل السيسي؟
فمع كل صفقة بيع جديدة، تقل قدرة الدولة على التحكم في قطاعات كانت يومًا ركائز الاقتصاد الوطني، ويزداد اعتمادها على شركاء إقليميين يتحركون ضمن مصالح استراتيجية أوسع، لا تنفصل – بحسب محللين – عن ترتيبات إقليمية ترتبط بدور الإمارات في إدارة نفوذ اقتصادي متشعب يتقاطع مع مصالح قوى دولية مؤثرة في المنطقة.
بين منطق الحكومة ومخاوف المواطنين
يرى مؤيدو هذه السياسات أن “تخارج الدولة” يخفف أعباء الموازنة ويحدّ من الإنفاق الحكومي على قطاعات خاسرة، معتبرين أن توسيع دور القطاع الخاص – المحلي والأجنبي – ليس مطلبًا لصندوق النقد الدولي فقط، بل توجهًا عالميًا.
ويذهب بعض الخبراء إلى أن دخول مستثمرين أجانب قد يرفع كفاءة الإدارة ويضبط الأداء المالي ويحسن الإنتاج، مع التأكيد على ضرورة احتفاظ الدولة بما هو استراتيجي وعدم التفريط في الأصول الحيوية.
لكن هذا الطرح لا يلقى قبولًا شعبيًا واسعًا، خاصة في ظل تدهور الأوضاع المعيشية، وتزايد شكوى المواطنين من الغلاء، وارتفاع الضرائب، وتراجع القدرة الشرائية، إضافة إلى موجات متكررة من رفع الدعم وزيادة أسعار الخدمات الأساسية، بينما تستمر الحكومة في بيع شركات وأراضٍ استراتيجية، وتوسيع دائرة الاقتراض الداخلي والخارجي.
وعود حكومية… وواقع اقتصادي خانق
في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، تعهّد رئيس الوزراء مصطفى مدبولي بـ“تحسن شامل” في المعيشة خلال السنوات الثلاث المقبلة، إلا أن خبراء اقتصاد – مثل الكاتب مصطفى عبدالسلام – اعتبروا هذه التصريحات تكرارًا لوعود لم تتحقق منذ 2014.
من جانبها، انتقدت الدكتورة سالي صلاح، خبيرة التخطيط الاستراتيجي، استمرار الحكومة في تغطية عجزها عبر الاقتراض وبيع الأصول، محذّرة من أن السياسة المالية الحالية تدفع البلاد نحو مزيد من الارتهان للدائنين والمستثمرين الخارجيين.
أزمة الدين العام: أرقام تنذر بالخطر
أكدت صلاح أن الدين العام ارتفع بنسبة 356% بين 2014 و2025، متصاعدًا من 4.3 تريليون جنيه إلى 19.6 تريليون جنيه، بينما بلغت خدمة الدين وحدها 9.6 تريليون جنيه؛ وهي أرقام تضع مصر في مسار مالي غير مستدام، على حد قولها.
وتطالب الخبيرة بإجراء إصلاح مالي جاد يشمل:
وقف بيع الأصول الاستراتيجية.
توحيد الموازنة العامة مع موازنات الهيئات والصناديق الخاصة.
إعلان الحجم الحقيقي للدين العام.
ضبط الاقتراض الخارجي.
اقتصاد يُعاد تشكيله… وشعب يتساءل
تبدو السياسات الاقتصادية الراهنة أقرب إلى إعادة صياغة لملكية الدولة، لا مجرد إصلاح اقتصادي.
ومع استمرار عمليات البيع والدمج والطرح أمام مستثمرين إقليميين، تتعاظم المخاوف من أن تتحول مصر إلى اقتصاد تديره شبكات نفوذ خارجية، بينما يُترك المواطن أمام مستويات معيشيّة تتدهور يومًا بعد يوم.
ويبقى السؤال الذي يتردد اليوم في الشارع وفي أروقة التحليل الاقتصادي:
بعد موجة البيع غير المسبوقة، ما الذي سيبقى ملكًا للمصريين عندما يغادر السيسي السلطة؟
