مصر في طورها المقزز

- ‎فيمقالات

نحن نحارب لأجل ربنا” قالها عبد الفتاح السيسي، وكأنه يقرأ من ملصق تم نزعه للتو من الزجاج الخلفي لسيارة متهالكة، يكدّس سائقها عشرات الركاب لإنعاش حصيلته، حتى وإن سقطت السيارة بمن عليها في مجرىً مائي مكتظ بالحيوانات النافقة.
هذه هي مصر الجديدة، وهذا هو حاكمها.. مصر في طورها العكاشي المتجدد، بعد أن تصورنا أنهم تخلصوا من “عكاشة”، لكنهم في الواقع جاءوا بعشرات العكاشات في كل المواقع.
عاد الخطاب العكاشي يجري على لسان السيسي، بالتزامن مع عودة “عكاشة” شخصياً عبر تقنية البث المباشر من الحقول، لمناسبة استكمال ديكورات مسرح العبث الانتخابي، ليقول إن مائة وثلاثة ملايين مصري لا يساعدون الزعيم الذي يبني قواعد المجد وحده.
هنا، والآن، يلجأ السيسي إلى القاموس العكاشي، مرة أخرى، لكي يخرجوا ويقولوا له “نعم” فيما ترتدي نخبته السياسية والإعلامية ملابسها العكاشية، وتنحدر بالخطاب إلى مرحلة لحس التراب، ولعق دماء الديمقراطية، بعد نحرها على مذبح الحرب على الإرهاب.
في الأثناء، تندلع أزمة مجلة الهلال التي أراد رئيس تحريرها أن يقطع شوطاً أبعد من الجميع، في سباق الدجل والتدليس، فوقع في المحظور، ونشر، بالخطأ، صورة لوالدة السيسي، من حيث أراد أن يرد على شائعات أنها يهودية، فأتى بالصورة التي يستخدمها خصوم السيسي دليلاً على يهوديتها.
بقية القصة، كما نشرتها “العربي الجديد” قبل يومين، أن أجهزة الدولة اهتزت بعنف، وجرت عملية إعدام نسخ المجلة في مفرمة الرئاسة والأمن الوطني، وفتحت تحقيقاتٍ موسعة، في الغالب سيطير معها رأس الشاب الصغير الذي جعلوه رئيساً للتحرير، لمجلةٍ ربما لم يسمع عنها أو يقرأ فيها سطراً، قبل الوعد بتعيينه.
هكذا، يصبح الشاب الصغير المسؤول عن المجلة ضحية لتيار جارف من الابتذال المقزز داهم مصر كلها، مع صعود عبد الفتاح السيسي إلى السلطة، بجريمة إقليمية ودولية، وهو التيار ذاته الذي دهش مئات العلماء الحقيقيين، بين مقتول ومسجون ومطرود، لكي يأتي بأحد العاملين في مختبر للتحاليل وينصبه عالماً ومخترعاً لجهاز يعالج الإيدز والأمراض المستعصية بطريقة صناعة الكفتة، ثم يلبسه أزياء جنرال برتبة لواء في القوات المسلحة، فتكون معارضته، أو حتى مناقشة اختراعه علنياً وفنياً، إهانة للمؤسسة العسكرية وخروجاً عن مقتضيات الوطنية، وكفراً بالوطن.
تقول السيرة الذاتية لمن جعلوه رئيساً لتحرير الهلال إن عمر عضويته في نقابة الصحافيين لا يزيد عن عدد أصابع اليد الواحدة، وإن كل خبرته المهنية تنحصر في عمله محرّراً في صفحة الحوادث والجريمة، يتلقى ما تكتبه وزارة الداخلية، فيقدمه لإدارة المطبوعة للنشر.
هذا الشاب، محرّر الحوادث المبتدئ، وجد نفسه فجأة يجلس مكان جورجي زيدان الذي أسس “الهلال” وترأس تحريرها في الفترة 1892-1914 تبركاً بالهلال العثماني رفيع الشأن، كما قال في افتتاحيتها، ثم جاء بعده إميل زيدان، ثم أحمد زكي، وعلي أمين، وكامل زهيري، ورجاء النقاش، وعلي الراعي، وصالح جودت، وحسين مؤنس، وكمال النجمي، ومصطفى نبيل.
هذا الشاب ضحية رغبات الإقطاع الجديد في الإعلام المصري، الذي يقوده كل من مكرم محمد أحمد وكرم جبر اللذين يوزعان المناصب والغنائم على الأهل والأصدقاء ومقدمي فروض الولاء والطاعة، بصرف النظر عن معيار الكفاءة والأهلية، لتصبح كل مسوغات تعيين محرّر حوادث مبتدئ على رأس أعرق مجلة ثقافية في الوطن العربي أنه كان أحد”الهتيفة” الذين استخدمهم الثنائي كرم ومكرم للسيطرة على نقابة الصحافيين، وطرد النقيب السابق يحيى قلاش منها، من خلال الذهاب إلى إعلان كيان موازٍ اخترعته الأجهزة الأمنية، وأطلقت عليه “جبهة تصحيح المسار” وفتحت باب التطوع فيها، ثم مكافأة الذين أدوا أدوارهم على النحو المطلوب بمناصب، فكان أن جيئ بأحد المغمورين بالأهرام، نقيباً للصحافيين، ووضع محرر جريمة مبتدئ في رئاسة تحرير “الهلال” العريقة، وصار مكرم محمد أحمد حاكمدار هيئة الإعلام كله، فيما أصبح تلميذه ومساعدة كرم جبر حارساً على هيئة الصحافة، يغرف منها ويوزع الإكراميات على الأنجال والمحاسيب.
هو سياق عام من الإسفاف يتجلى في الإعلام والثقافة والغناء والرياضة، لإقامة دولة عسكرية عتيدة، ذات مرجعية عكاشية ثابتة.
====
نقلا عن العربي الجديد

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها