من الأبعاد والزوايا التي لم يتطرق إليها أحد في حادثة مقتل الأنبا إبيفانيوس، رئيس دير أبو مقار بوادي النطرون بمحافظة البحيرة يوم الأحد 29 يوليو الماضي، انفصال الكنيسة بشعبها ورعاياها بعيدا عن مؤسسات الدولة، إضافة إلى غياب أي رقابة من أي جهة في الدولة على أعمال الكنيسة المالية، سواء على مستوى الكاتدرائية أو الأديرة التي ينفصل كل منها بجمع التبرعات وإنفاقها بعيدا عن أي رقابة إلا رقابة صورية من الكنيسة.
ولا شك أن مقتل رئيس دير أبو مقار، قد فجَّر الخلافات التي كانت خفية بين الرهبان فيما يتعلق بمسائل لاهوتية وتوجهات التقارب مع الكنائس الأخرى، بين مدرستي الأنبا متى المسكين والتي ينتمي إليها البابا تواضروس، ورئيس الدير المقتول مؤخرا، والمدرسة الأخرى التقليدية والتي تضم تلامذة البابا شنودة، والأنبا بيشوى الرجل القوي داخل الكنيسة، والذي اختفى منذ فترة صعود البابا تواضروس على كرسي الباباوية.
وبحسب خبراء ومتخصصين، فإن الفترة الطويلة التي قضاها البابا شنودة، على رأس الكنيسة الأرثوذوكسية، والتي امتدت لأربعين سنة؛ حولته إلى زعيم دولة سياسي لا زعيم طائفة دينية. وبدأت شوكة الرجل تقوى حتى بات نفوذه طاغيا في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك (1981/2011).
وانهزمت الدولة المصرية أمام دولة البابا شنودة مرتين: الأولى، عندما قررت السلطة في عام 2008 تسليم زوجتي كاهنين هما وفاء قسطنطين وماري عبد الله بعد أن أعلنتا إسلامهما للكنيسة، في سابقة لم تحدث من قبل في التاريخ المصري. حيث استخدم شنودة تكتيك الهجوم والضغط على النظام وحرض رعايا الكنيسة على التظاهر، واعتزل في دير وادي النطرون، وحرك مظاهرات في الولايات المتحدة الأمريكية وعواصم غربية للضغط من أجل تسليم وفاء قسطنطين للكنيسة، وهو ما حدث بالفعل وتم إيداعها أحد سجون الكنيسة حتى استشهدت، بحسب الدكتور زغلول النجار.
والثانية عندما تحدى البابا شنودة القضاء المصري، وأعلن أنه لن يلتزم بالأحكام النهائية التي أصدرها القضاء والخاصة بإجبار مؤسسة الكنيسة على إعطاء رخصة للزواج الثاني لمن طلق من الأقباط كي يتزوج مرة أخرى؛ لأن الكنيسة تتحكم في هذا الزواج الثاني دينيا ومدنيا، وتعطله بحيث لا يبقى أمام المواطن القبطي الذي ترفض الكنيسة تزويجه شرعا، في هذه الحالة سوى الزنا!.
دولة داخل الدولة
وفي سياق تعليقه على حادث تسليم زوجتي الكاهنين؛ يقول المفكر الإسلامي والفقيه الدستوري الدكتور محمد سليم العوّا: إنّ الدولة انهزمت أمام الكنيسة للمرة الأولى فى تاريخها منذ عهد الفراعنة، عندما قامت- كممثل عن المسلمين – بتسليم كل من وفاء قسطنطين وماري عبد الله، بعد أن أسلمتا للكنيسة، وذهبت هاتان السيدتان سجينتين لدى الكنيسة إلى حيث لا يعرف أحد، أما الخطورة من هذا التراجع في دور الدولة أمام أقلية دينية فهو أن هذا الضعف من قبل الدولة يؤدي في النهاية لاستقواء البابا وتحوله إلى رئيس دولة الكنيسة داخل الدولة المصرية، يسن القوانين الخاصة بدولته تحت شعار “قال الأنجيل” و”الشريعة المسيحية”، ما يؤدي إلى طغيان الكنيسة وجبروتها فى مواجهة الدولة، حتى إنها أسرت سيدتين ووضعتهما فى سجن لا يعرفه أحد، وصنعت سجنا داخل الدولة وتحدت سلطة الدولة.
وفي قضية الزوج الثاني، أعلن البابا شنودة الثالث رفضه التام لتنفيذ حكم المحكمة الإدارية العليا، البابا شنودة لم يكتف بهذا بل ضرب بالأحكام القضائية عرض الحائط، وهدد أي قس مصري بالشلح (العزل) لو قبل قرارات المحكمة وأعطى تصريح زواج ثان لأي قبطي، وتحدى أجهزة الدولة بسلطته الكهنوتية التي تتعالى على أحكام القضاء، وأصبح بهذا يتحدى الدولة ككل، والبابا لم يكتف بهذا، برغم أن مخالفته لأحكام القضاء توجب عزله من منصبه وسجنه، وإنما بدأت عمليات شحن ديني للأقباط واستنفارهم للدفاع عن (عقيدتهم).
المسكوت عنه في الأديرة
وتحت هذا العنوان، يشير الباحث الإسلامي عصام تليمة، إلى أن محاولة راهبين الانتحار، بعد مقتل رئيس دير أبو مقار قد فتح بابا للنقاش والتساؤل حول الأديرة المصرية وما يجري فيها، والقرارات التي أصدرها البابا تواضروس.
يقول تليمة، متنقدا تناول الإعلام/ «فلو أن الحادث– مثلا – حدث في مؤسسة دينية إسلامية، بأن قتل إمام مسجد، أو مدير منطقة أوقاف، في مكان يعيش فيه الأئمة فقط، لرأينا الإعلام وضيوفه يتكلمون عن الأزهر ومناهجه، وكيف أن هذا الإمام المقتول وقد قتله يقينا زميل له، لا شك أنه تأثر بالمناهج الأزهرية القديمة المتشددة. ولرأينا إسلام البحيري خرج يتحدث عن هذا الفكر العفن، الذي جعل إماما يقتل زميله، وأنه لا شك مر على كتب ابن تيمية، وكتب المذاهب الأربعة، وأنها كما صنعت هذا القاتل، لا شك صنعت قتلة آخرين بين أفراد المجتمع، ولاتخذها فرصة وغيره للمز وغمز الأزهر والمؤسسة الدينية والمناهج، ولعزف على هذا المنوال من قناة لأخرى، وقام معه إبراهيم عيسى وغيره في نفس الوقت».
ويتساءل تليمة: «هل يجرؤ الإعلام المصري ونخبته على فتح ملف الأديرة والكنائس، وما يجري فيها؟ لقد تكلم الدكتور محمد سليم العوا سنة 2010 تقريبا عن وجود أسلحة داخل بعض الكنائس والأديرة، وقامت الدنيا وما قعدت، وهاج بعض المسيحيين، إذ كيف يتجرأ على هذا الاتهام الخطير، وأنه كلام كذب لا أساس له من الصحة.
إن العوا رجل عاقل جدا، ودقيق جدا في كلامه، ولا أظنه قال كلامه دون معلومة حقيقية، فيقينا معلوماته صحيحة، وهي مسربة له ولغيره من أشخاص يحرصون على الوطن، لكن وضعهم لا يسمح لهم بالخوض في الأمر، والدليل على صحتها: أن أحدا من الكنيسة ومسئوليها وكبارها لم يجرؤ على رفع دعوى عليه، بل كان الرد مجرد كلام إعلامي فقط، ولو كان كلاما كاذبا لنكلوا به قانونا!».
ويعلق تليمة على تجاهل الإعلام لأزمة وفاء قسطنطين في 2008، مضيفا «أيضا في هذا الملف صمت الإعلاميون ولم ينبسوا ببنت شفة، ولو أن الأزهر فعلها مع فتاة مسلمة تنصرت، فاستردها لرأيت المقالات والمانشيتات تملأ الصحف والفضائيات، عن عودة محاكم التفتيش، والاختفاء القسري، وقهر المواطن، ومنعه من ممارسة حريته الدينية».
لقد تدخل الإعلام في شئون الأزهر، في كل صغيرة وكبيرة فيه، وصادر حكم العسكر في عهد عبد الناصر أوقافه، ولم يردها للمسلمين، بينما رد كل أوقاف المسيحيين، وترك إدارة الأديرة للكنيسة خالصة لا يتدخل فيها أحد، حتى أصبحت دولة مستقلة داخل الدولة، وكلما حدثت حادثة في دير من الأديرة كلما فتح أعين الناس على المسكوت عنه داخل هذه الأديرة».