وتتجدد ذكرى المذبحة..

- ‎فيمقالات

 

رابعة.. المدينة الفاضلة

اجتمعت في معتصم رابعة مقومات المدينة الفاضلة.. وساهم كل فرد من أفراد مجتمع رابعة لكي تكون فاضلة.

كانت رابعة المدينة الفاضلة التي أقلقت أعداء الفضيلة، التقى فيها أحرار الإنسانية الرجل والمرأة، الشيخ والشاب، الكبير والصغير، الغنى والفقير، العامل البسيط والموظف الكبير، رقاق الحال وميسورو الحال، الرجل العظيم فى قومه والذى لا يؤبه له، المختمرة والمنتقبة والمتبرجة، المسلم والمسيحى، التقوا حول قضية الإنسان من حيث كونه إنسانا يجب أن تكون كرامته مصانة، وحريته محفوظة، لا يستعبد إلا لخالقه.

وحرية الإنسان ــ كما ورد في البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام ــ مقدسة كحياته سواء، وهي الصفة الطبيعية الأولى التي بها يولد الإنسان، "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة"

قال أبو زيد الدبوسى: (لا يخلق الآدمى إلا وهو حر مالك لحقوقه وحريته ).

ردد أهل رابعة على مسامع الدنيا وفى وجوه أعداء الحرية والإنسانية فى الشرق والغرب، الذين أرادوا للشعوب أن تظل خانعة فى ظل ثقافة الاستكانة والاستضعاف، التى عرفت بالعبودية المعاصرة.. رددوا عليهم قولة الخليفة الثانى عمربن الخطاب " رضى الله عنه" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا".

فلا عجب إذا سمعت الأحرار يردودون فى مسيراتهم : (رابعة جوا القلب)… (رابعة مش فى مدينة نصر.. رابعة فى كل شوارع مصر)

كانت رابعة المدينة الفاضلة.. فلماذا ؟

-لأنها مثلت الإنسانية الحرة فى أعلى صورها وأسمى معانيها،.ولأن أهلها أبوا إلا أن يعيشوا كراما أو يموتوا مرفوعى الهام، وأبوا الفرار أمام جحافل الظالمين المدججين بالسلاح، وواجهوهم بصدورهم العارية، وأياديهم المتوضئة الممسكة بالمصاحف، تلهج ألسنتهم بالتكبير والدعاء، والذكر والتسليم لأمر الله، مستصحبين نية الشهادة، ونصب أعينهم قوله تعالى : ( لئن بسطت إلى يدك لتقتلنى ما أنا بباسط يدى إليك لأقتلك )المائدة 28، فكانت رابعة بحق رمز الصمود، وكان أهلها كما وصفهم الواصفون : (عاشوا رجالا وماتوا أسودا)

– ولأن أهل رابعة أبوا إلا أن يكونوا مع الحق، وأبت عليهم ضمائرهم إلا أن ينصروا المظلوم ويقفوا فى وجه الظالم.

– ولأن مجتمع رابعة أعاد إلينا مشهد المجتمع الأول من جيل الصحابة الذين عاشوا فى المدينة المنورة فى صحبة الحبيب صلى الله عليه وسلم، حيث الإخاء والمحبة والترابط والتضحية والتكافل والتضامن، ورقة القلوب وقرب الدمعة، وطيب الكلام، وحلاوة الحديث، سكانها ينتقون أطايب الكلام كما يُنتقى أطايب الثمر.

– ولأن رابعة كانت مدرسة الإخلاص والقيام والتعاون و الذكر والدعاء والعلم والبطولة والتضحية و الثبات والأخوة والإيثار.

يبحث الرجل عمن ليس لديه إفطار حتى يطعمه.

ويتودد الراغب فى الأجر إلى الصائمين لكى يقبلوا منه عصيرا أو تمرا أو وجبة.

عاش أهل رابعة أخلاقيات الإسلام؛ فطعام الواحد يكفى الاثنين وطعام الاثنين يكفى الأربعة، فلا تكاد تجد بينهم جائعا.

وُجد بعضهم يفطر فى رمضان على خبز وقطع من الجبن والخيار فى قناعة وتعفف، فرآه بعض إخوانه فذهب سريعا وأحضر له وجبة دجاج، وتودد إليه لكى يقبل منه، فرد الآخر فى قناعة : شبعت والحمد لله.

– ولأن رابعة كانت البسمة تملأ جنباتها، وتعلو وجوه معتصميها، متمثلين قول النبى صلى الله عليه وسلم: ( تبسمك فى وجه أخيك صدقة).

التسامح والحب هما سر السعادة والألفة فى زوايا هذه المدينة الفاضلة.

– ولأن بيوت رابعة أعمدتها من الخشب، وحوائطها من الستائر القماشية والملاءات والبطاطين، وسقفها من المشمع والبلاستيك، وفراشها الحصير، ولكن ساكنيها يعيشون فى سعادة لو علمها أهل القصور لتركوا قصورهم وأتوها ولو حبوا.

– ولأن رابعة شعار ساكنيها الأمانة، فلو ضاع من أحدهم فى ساحها درهم لا يذكر أين سقط منه، لنودى به فى المذياع أن وجد درهم فليأت صاحبه ليأخذه.

– ولأن رابعة كانت مهوى الأفئدة من كل صادق اللهجة، صاحب المبدأ، يأوى إليها كل من أراد أن يجدد فى نفسه معانى الإنسانية والتقوى والحب فى الله ونصرة الحق، والرباط فى سبيل الله.

– ولأن رابعة إذا نادت على شىء جىء به إليها، مهما كان عزيزا فالغالى يرخص من أجلها: من دواء أو غذاء أو كساء أوأجهزة أو..،…، إلخ. ثقة فى أهلها وحبا لساكنيها، وإيمانا بعدالة قضيتهم.

– ولأن رابعة كان كثير من قاطنيها ومعتصميها من العلماء والمفكرين والباحثين والتربويين والإداريين وغيرهم، فعملوا على حل كل ما يعترض أهلها من صعاب ومشاكل، فحفروا آبارا حتى لا يهددوا بقطع المياه، وأعدوا المواتير حتى لا يهددوا بقطع الكهرباء، واخترعوا طائرة لتنقل صورة حقيقية عن حجم وأعداد المعتصمين بها، حتى قيل على سبيل المزاح :لو ظل المعتصمون شهرا آخر لاخترعوا قنبلة نووية وهددوا أمن إسرائيل.

– ولأن رابعة كانت عنوانا للعفة والطهارة، فهى المكان الذى يجتمع فيه الملايين من البشر من الرجال والنساء والشباب والفتيات – فى المليونيات التى يُدعون إليها – ولا ترصد فيه حالة واحدة للتحرش أو الاعتداء على أنثى؛ لأن الجميع من حولها يخافون عليها ويعاملونها – بحق – معاملة الأخت.

– ولأن رابعة كانت بها مستشفى، يقوم عليها ثلة من الأطباء الأحرار من الرجال والنساء، نذروا أنفسهم لمداواة الجرحى، وتجهيز من يرتقى من الشهداء، ومعالجة مرضى المعتصم، فهم فى رباط مع المرابطين.

لا يأتيها إلا صاحب علة غير متمارض،ولا يتوانى الأطباء فى علاجه والعمل على راحته، ولا يألون جهدا من أجل سلامته فالطبيب حاضر، والدواء موفور، فالكشف والدواء مجانا دون أية إجراءات إدارية ثقة فى دين معتصميها، ترى فى أى نظام تأمين صحى يتوفر هذا !!

ومع بساطة مكان المشفى كانت الروح السائدة والبسمة المستمرة تعوض المرضى عن النقص في التجهيزات..

– ولأن رابعة كانت أسطورة التكامل والشمول فى النظام والنظافة، فى الرباط والجدية، فى الرياضة واللياقة، فى التكافل والإيثار، فى التلاحم والتراحم، فى الدعاء والتبتل والابتهال، فى الخواطر والمواعظ، فى البيان والخبر، فى الهتاف والتكبير، فى الأنشودة والترفيه.

– ولأن رابعة سكنها علماء الأمة ودعاتها، من كل صادق مجاهد، على منبرها يصدعون بكلمة الحق، ومن أعلى منصتها ينادون بالصدق. لا تكاد تنقطع فيها حلق الذكر، ومجالس العلم، ودروس الأخلاق والسيرة للأطفال، وتعليم وإكساب المهارات، والرسم والترفيه.

– ولأن رائحة المسك كانت تنبعث من شهداء رابعة، وتعبق أرجاءها وجنباتها، فتعرف مكانة الشهيد عند ربه، وترى آيات الصدق وكرامات الأولياء فى بسمات الشهداء، الواحد تلو الآخر يُصلى عليه، لايكاد يمر يوم دون صلاة الجنازة أو صلاة الغائب على شهداء اعتصامها طيلة أيام الاعتصام، ولم تتوقف يوما دماء جرحاها ومصابيها، وكان أصدق وصف لأهلها ما قيل : إن سألوك عن أهل رابعة فقل: (كان هناك شهيد، يصلى عليه شهيد، ويصوره شهيد، ويودعه شهيد.)

ولكن.. ولكن أقصى ما يؤلمك، ويدر دمعك، ويقض مضجعك أن يحال بينك وبين إغاثة ملهوف، أو أن تمنع من إسعاف مكلوم، أو أن ترى مستضعفا ولا تستطيع أن تنصره، أو أن تكون أنت واحدا من هؤلاء.. ذاك يوم فضها!!.