أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه

- ‎فيمقالات

 

بقلم: د. فتحي أبو الورد

 

حكى لى صديق أن أحد العرب دخل مطعما فى سنغافورة، وطلب طعاما أكثر من احتياجه فأكل قدر وسعه، وخلف وراءه الكثير الذى لم يستطع التهامه، وسدد فاتورة الحساب كاملة، عما أكل وعما ترك، ولكنه روجع فى ذلك من قبل إدارة المطعم، ولما سئل فأجاب: سددت الحساب كاملا، ولم أرتكب جرما. فقوبل: بأنك أهدرت موارد ومواد تستوردها الدولة، وهى حق للجميع، لا يجوز لأحد أن يهدرها، وإهدارها يعنى الجور على حق الآخرين فى المجتمع.

 

وأخبرنى صديق بأنه أثناء زيارته لسنغافورة قرأ إعلانا فى أحد المطاعم فى البوفيه المفتوح فيه تنبيه أن تأكل كما تشاء، ولكن لا تبقي شيئا فى الطبق، فإذا أبقيت شيئا ستدفع مبلغا مقطوعا نظير ذلك، فلما سأل لماذا هذا الإعلان؟ قيل له: هذا خاص بالعرب.

 

وأخبرنى آخر أن كثيرا من الأوروبيين يشترون احتياجاتهم من الفواكه والخضروات بالحبة، والقطعة، لا بالكبشة، ولا باللفة.

 

سلوكيات كنا نحن -المسلمين- أحوج ما نكون لأن نتمثلها ونتخلق بها، ونعلمها لغيرنا، أى نأخذ من كل شىء حاجتنا، بلا سرف ولا مخيلة، كما جاء فى حديث النبى صلى الله عليه وسلم الذى رواه البخارى: ((كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا، فيغير إسراف ولا مخيلة)).

 

وقال ابن عباس: "كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك اثنتان: سرف أو مخيلة".

 

كان أحد العلماء يأكل فى بوفيه مفتوح فى أحد الفنادق ذات النجوم الخمسة، فيأخذ قدر حاجته، ولا يبقى شيئا فى الطبق، حفاظا على النعم، وقياما بشكرها، حتى ولو كان الطعام كثيرا ومفتوحا.

 

ولفت نظرى أحد رجال الأعمال الصالحين، وهو يأكل مع ضيفانه، ومائدته عامرة بما لذ وطاب، فيأكل الكسر، ويلتقط ما وقع، فى مظهر بالغ التأثر والتأثير فى الحفاظ على النعم، ينطق بأن ذاك العبد يعلن افتقاره وحاجته إلى المنعم، ولا تنسيه النعم عن واهبها، فى مشهد يستنكف أن يفعله أحدنا من البسطاء، حتى يتحاشى الوصم بالبخل أو الإمساك، أو الريفية، أو الرجعية، أو يتحامى نظرات الإحراج من الرامقين له، ممن يحبون المظاهر الخادعة، والأشكال الكاذبة.

 

ولا أزال أذكر قولة إحدى العجائز الفقيرات حين كان يتفقدها أحد المحسنين، معبرة بلغتها الدارجة عن شكرها لله على النعمة التى هى فيها: "لو زادت عن كده تحمض". أى تفسد، وربما لا تجد فى بيتها المتهالك طعاما للعشاء.

 

وجدت من يعيش على القليل من الطعام ومع ذلك تخرج كلمة الحمد من فمه بعد الفراغ من طعامه وشرابه، مفعمة بالرضا، وكأنما انتهى من مجلس ذكر وتسبيح وتهليل ودعاء، مما ذكرنى بقول النبى الأمين صلى الله عليه وسلم فى صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك: ((إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها)).

 

رأيت القليل من النعم تقود كثيرا من العباد إلى الشكر، وإلى حب المنعم، وهم مع ذلك يخشون أن يكونوا ممن عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا، ولقد جاء فى الحديث الذى رواه الترمذى والحاكم: ((أحبوا الله لما يغذوكم من نعمه)). بينما رأيت كثيرين يعيشون مع النعم، وينسون المنعم.

 

وفى الولائم يظهر الكرم العربى، فتذبح الخراف والجمال تحية للحضور والضيفان، إلا أن هذه المكرمة تتلبس كثيرا بالمفاخر والمباهى وتقترن عادة بالتبذير، وتستحيل إلى آثام حين تخلف أكواما من الطعام مصيرها إلى مقالب القمامة، بعد معركة حامية الوطيس بالأيدى والملاعق والمغارف، بينما هناك من يتضورون جوعا، ومن يبيتون على الطوى.

 

ولم يستطع أهل الثراء أن يتخلصوا من آفة التبذير فى الولائم والعزائم إلا حين وجدت الأفكار الاجتماعية الإيجابية سبيلها فى حياة الناس، فنظمت الجمعيات الخيرية تجميع ما تبقى من طعام نظيف، وأحسنت تغليفه، ووزعته على أهل التعفف، ممن أحصتهم فى قوائم مسبقة لديها.

 

ولما نزل قوله تعالى: {ثم لتسألن يومئذ عن النعيم} [التكاثر: 8] قال الزبير كما جاء فى مسند أحمد: أي رسول الله، أي نعيم نسأل عنه، وإنما هما الأسودان؟ -يعني التمر والماء-. قال: ((أما إن ذلك سيكون)).

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها