جريمة خاشقجي.. الرسالة الخاطئة

- ‎فيمقالات

أعادت تصريحات الرئيس التركي أردوغان حول توقعاته الإيجابية بشأن حادث اختفاء الكاتب الصحفي جمال خاشقجي؛ الجدل حول وضع الإعلامي السعودي، وما إذا كان تم قتله فعلا، حسبما نقلت وكالة رويترز العالمية للأنباء عن مصادر أمنية تركية، وهو ما نقله عنها العديد من القنوات والصحف والمواقع، أو ما إذا كان لا يزال حيا، سواء داخل السفارة أو خارجها أو في الأرض السعودية، حسبما قد يفهم من كلام أردوغان ولو جزئيا. وبغض النظر عن دقة أي من الاحتمالين، فإن المؤكد أن جمال لا يزال مختفيا حتى كتابة هذه السطور، وإن المؤكد أن رسالة ما جرى هي الأهم بغض النظر عن التفاصيل التالية.

الرسالة هنا مركبة، فهي للداخل السعودي بشقيه المؤيد والمعارض، كما أنها رسالة للخارج السعودي بما يشمله من المعارضة السعودية الخارجية، والمعارضات العربية التي تناوئ أيضا الحكم السعودي، ودولة تركيا التي أغاظت السعودية حين تمكنت من إفشال حلمها ومخططها باحتلال قطر خلال ساعات معدودة، وكذا الإقليم الذي يريد ابن سلمان فرض نفسه زعيما له في ظل غياب مصر وسوريا واليمن والعراق الذين كانوا يمثلون الدول العربية المشرقية الكبرى.

تابعت من قبل حالة اختفاء زميلنا الصحفي رضا هلال، ابن صحيفة الأهرام، قبل 15 عاما. عرفت رضا صحفيا متخصصا في الشؤون الدولية والصراع العربي الإسرائيلي. وكان من كبار دعاة التطبيع مع العدو الصهيوني، وكانت له علاقات متشعبة بأجهزة سياسية وأمنية مصرية وإسرائيلية وأمريكية. وحين جرت واقعة اختفائه كانت الظنون أنه محتجز لدى أحد الأجهزة الأمنية المصرية لاستجوابه؛ ربما في علاقات مشبوهة مع أجهزة أخرى، وبعد انتهاء التحقيقات فإنه سيعود إلى بيته وعمله. لكن الانتظار طال كثيرا، فبدأت هواجس قتله، واختفائه للأبد، خاصة أن قصة اختفاء المعارض الليبي منصور الكيخيا في القاهرة كانت لا تزال ساخنة ولم يمض عليها عشر سنوات، دون أن تتمكن أسرته من معرفة أي معلومات عنه، رغم أن زوجته التي تحمل الجنسية الأمريكية حركت الإدارة الأمريكية وقتها لمساعدتها.

حين وقعت حادثة اختفاء جمال خاشقجي يوم الثلاثاء الماضي، توقعنا فورا في نفس اليوم أنه سيلحق بمصير رضا هلال ومنصور الكيخيا، وبعدد من أمراء العائلة المالكة السعودية نفسها؛ لأن المغامرة السعودية لم تكن تقبل أنصاف الحلول، حتى لا تقدم بنفسها دليل إدانتها، ولكنها أرادت محو آثار الجريمة سريعا ليبقى فقط أثرها، وهذا هو الأهم بالنسبة لها، ولا أظن أنه كان يغيب عنها ردود الفعل التركية والدولية المتوقعة، خاصة أن خاشقجي ليس شخصا نكرة، بل هو كاتب ومحلل سياسي معروف يكتب في كبريات الصحف الأمريكية التي تركت موضع مقاله فارغا؛ معنونة إياه “الرجل المفقود”. لكن السلطات السعودية التي تدرك أنها طالما دفعت لترامب الجزية المطلوبة منها، فإنها بمأمن من أي مساءلة دولية، ربما لم تكن تدرك أن هذا التهور البدوي سيغري ترامب لطلب المزيد، وهو ما يحدث فعلا وبشكل مهين، دون قدرة على الرد من الجانب السعودي.

تركيا في وضع صعب، وتحد كبير لإثبات روايتها، والدفاع عن سيادتها، وتأكيد قدرتها على حماية ضيوفها والمقيمين على أرضها؛ وهؤلاء المقيمين الذين يمثلون أطيافا من المعارضة السياسية للعديد من نظم الحكم في المنطقة، وإن كانوا يمثلون عبئا على الحكومة التركية من جهة تكلفة تأمينهم، ودفع فاتورة استضافتهم أمنيا وسياسيا، إلا أنهم يمثلون في الوقت نفسه مصدر قوة لها، بل للدولة التركية ذاتها التي غدت زعيمة العالم الإسلامي السني، عبر تبنيها لقضايا المسلمين عالميا، وعبر دفاعها عن ثورات الربيع العربي، واستضافتها لاحقا للمطاردين من بلدان تلك الثورات. وحين تعجز تركيا عن حماية هؤلاء، فإنها تفقد مباشرة زعامتها التي حلمت بها طويلا، بل ستجد نفسها مهددة لاحقا في عقر دارها. فالمتربصون بها لن يكتفوا بقتل أو اختطاف عدد محدود من رموز المعارضات العربية، لكنهم سيعمدون لإثارة الفوضى بشكل عام في تركيا، كما حاولوا من قبل، وهو ما ستترتب عليه آثار سياسية واقتصادية واستثمارية سلببية للغاية.

تدرك تركيا أيضا أنها مستهدفة من حلف الناتو العربي الصهيوني الذي يجري تأسيسه بزعم مواجهة إيران، وهو الحلف الذي يجمع الدول المعادية لتركيا في الوقت نفسه، ومنها المملكة السعودية والإمارات والبحرين ومصر السيسي. وحين يتأسس هذا الحلف وتصبح له قوات وقواعد، فإنه سيبدأ عمله في الغالب ضد تركيا وليس ضد إيران التي تأسس ظاهريا لمواجهتها، حتى تنتزع المملكة زعامة العالم السني من تركيا بقبول سيساوي. ومن هنا، فإن تركيا لا تريد منح ذريعة للمتربصين بها، وهو ما قد يفسر – ولا يبرر – سر تراخي الموقف التركي تجاه الجريمة السعودية على أرضها.

لا يريد عاقل أو صاحب قضية تصاعد التوتر بين تركيا والسعودية، وصولا إلى قطع العلاقات، ففي ذلك إضعاف للدوليتن، ولكن “الطرمخة” على جريمة قتل أو اختطاف جمال خاشقجي، مهما كان الثمن، سيفتح الباب لمزيد من هذه الجرائم، فمن أمن العقوبة أساء الأدب. وربما أقدم نظام ابن سلمان على فعلته بعد مرور جريمة موت المعارض السعودي محمد المفرح قبل أربع سنوات بمرض غامض، قال هو قبل وفاته إنه بفعل فاعل، وكان المقصود هو التسميم. وإذا مرت الجريمة الجديدة دون رد، فإنه سيتشجع على ارتكاب المزيد وله في ذلك سوابق كثيرة، وسيشجع غيره من طغاة المنطقة على اختطاف معارضيهم من تركيا.

من واجب قيادات المعارضات العربية البحث عن أمانهم وأمان أنصارهم، حتى يتمكنوا من استكمال نضالهم لتحرير شعوبهم، ولكن يخطئ النظام السعودي (ومعه حلفاؤه) إذا توهم أن جريمته بحق خاشقجي ستثير الهلع في نفوس هؤلاء المعارضين، الذين يحملون أرواحهم على أكفهم، والذين كانوا من قبل مشاريع شهداء في مذابح السيسي وبشار، والذين حملوا جثامين إخوتهم وأبنائهم وبناتهم على أكتافهم، ولم يسقطوا الراية من أيديهم، والذين يؤمنون قبل كل ذلك بأن نفسا لن تموت حتى تستوفي أجلها، فإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون.

المقالات لا تعبر عن رأي بوابة الحرية والعدالة وإنما تعبر فقط عن آراء كاتبيها