الحنين إلى زمن المخلوع

- ‎فيمقالات

الصورة في مصر الآن تقول: كل من يمتّ إلى ثورة يناير بصلة إما في القبور، أو في المنافي، أو في السجون، أو يتنقل من سجن إلى سجن، ومن نيابة إلى أخرى، لمتابعة مسجونين أو معتقلين.

على الجانب الآخر من الصورة، اشتباك بين بعض فلول ثورة يناير (نعم فلول يناير) حول أيهما أفضل: الجنرال المخلوع حسني مبارك، أم الجنرال المزروع عبد الفتاح السيسي، لمناسبة الحديث عن حرب أكتوبر 1973.. ولأن هناك فائض من رفاهية الفراغ، ووفرة من الوقت والطاقة، لا بأس من افتعال معارك أخرى واشتباكاتٍ موازية، ينقسم فيها نفرٌ من فلول يناير إلى فريقين، أحدهما منحاز إلى الفريق حسني مبارك، قائد القوات الجوية، والآخر مع الفريق سعد الدين الشاذلي، رئيس الأركان، في معركة مضت عليها 46 سنة وقُتِلَت بحثًا وتأريخًا وكتابة مذكرات، واستعراض وثائق وعضلات وتحليلات.
وفي خلفية الصورة، تستمر عمليات سحق أرواح وتكسير عظام كل المنتمين إلى ثورة يناير 2011 لتلتهم الجميع، الإخواني والليبرالي، السلفي واليساري، المرأة والرجل، لكن القوم منشغلون بالاستقطاب حول مبارك/ الشاذلي، والسيسي/ مبارك، منقسمين بين عسكريين، راحلين وجاثمين على الصدور، من تجاوز التسعين، ومن لا يزال يعيش الستين بنزق مراهق وطيش شاب.

أطلّ مبارك، عبر تقنية البث المباشر على موقع “يوتيوب”، بعد تجاهله في حفلات ذكرى أكتوبر التي أرادها السيسي لنفسه، ولمن يرعاه من عواجيز العسكرية، ليتحدّث عن أمجاده وبطولاته في الحرب، وكأنها كانت حربه وحده، ليمارس، هو الآخر، تطاوسًا واستعلاء على الراحلين من القادة الذين لا يزال مسكونًا بهاجس الثأر والانتقام منهم، وهم في قبورهم، بين يدي الله، وفي الوقت ذاته يستثمر فرصة أنه ليس أسوأ ولا أقبح في تاريخ مصر الحديث من الفترة الحالية، فيطرح ذاته باعتباره العبقرية بمواجهة الرداءة، والحُسن في مقابل الدمامة، والكفاءة أمام الرداءة.

بالمقاييس العسكرية، لا وجه للمقارنة بين مبارك والسيسي، الأول حارب في أكتوبر 1973 ضد عدو واضح، والثاني علاقته بالحرب أدنى من علاقة جيهان السادات بها.. لكن بالمعيار السياسي، لا فرق بينهما، كلاهما من الصنف الذي تريده إسرائيل على عرش مصر، الأول كان كنزها الاستراتيجي الذي أوجعها سقوطه، والثاني أعظم هدايا الرب لها ولشعبها، وتضعه في حدقات عيونها وتعض عليه بالنواجز.

يدهشك، إلى حد الصدمة، أن هناك من يدّعي وصلًا بثورة يناير، وخصومة مع الانقلاب، من يريد أن يسحب دور مبارك، المحارب في 1973 على مجمل أعمال تاريخه السياسي، فيتحدّث عنه وكأن أعظم ثورة شعبية في تاريخ المصريين اندلعت ضد فساد وظلم وانهيار وتبعية سنواته الثلاثين التي قضاها في السلطة، أو أن الجحيم الذي يعيشه المصريون الآن ليس وقوده روح الانتقام من الثورة التي أطاحت مبارك وحكمه العسكري، ولو للحظة خاطفة.

أكثر من ذلك، السيسي هو الحصاد المر لزرع مبارك، وما أفسده من زرع، ناهيك عن أن مبارك لم يترك مناسبة إلا وأشاد فيها بالسيسي، نفاقًا أو مجاملة، أو عربونًا لتبرئته من كل الاتهامات بارتكاب جرائم فساد، وإراقة دماء نحو ألف شهيد في ثورة يناير، أو بعبارة واحدة: رأى فيه ظله وامتداده.

انقلاب صيف 2013، بالنسبة لمبارك، كان هدية آخر العمر له من عبد الفتاح السيسي الذي وصفه بأنه “العقر”، وقد رد مبارك الهدية بشهادته أمام المحكمة ضد ثورة يناير، واعتبارها المؤامرة الشريرة على مصر، تمامًا كما يردد السيسي. وكما كتبت وقتها، فإن أحدًا لم يفرح ب “30 يونيو” كما فرح بها حسني مبارك، إذ اعتبرها، في أول ظهور له 2014، عيدًا قوميًا لمصر، فهي التي أخرجته من السجن، وولديه، ووزراءه، وبالأخص وزير داخليته. وفي جلسة محكمة مبارك كانت “30 يونيو” تحاكم “25 يناير”. وبالتالي، لا مفاجأة على الإطلاق في أن يشارك في حفل الانتقام، ويشرب نخب “يناير”، ومن دمها حد الارتواء، كاشفًا الغطاء عن أولئك المهرّجين الذين يروّجون أوهامًا، من قبيل التعاون مع دولة مبارك العميقة، لإسقاط انقلاب عبد الفتاح السيسي، الأقل عمقًا، بالقياس على منسوب العداء لثورة يناير.
هل لا تزال الأوهام أوهامًا، أم أنها صارت حنينًا إلى زمنٍ ثار عليه الشعب المصري، ودفع ثمنًا باهظًا من دماء أبنائه؟.
نقلاً عن “العربي الجديد”