الإرادة الشعبية وتحدّيات المستقبل

- ‎فيمقالات

شهد العام 2019 حراكاً شعبياً واسع النطاق في السودان والجزائر والعراق ولبنان. اتسم ذلك الحراك بعدّة سمات رئيسية، أبرزها أنه حراك سلمي يستند إلى إرادة شعبية واعية. والسمة الثانية الإصرار والاستمرارية. والثالثة الخصوصية، بمعنى أن الجماهير في كل بلد رفعت شعاراتٍ تعبر عن مطالبها بشكل محدّد، وتجنبت التعميم الذي كان سمة ثورات الربيع العربي في العام 2011، فالجماهير في السودان طالبت بالحرية والعدل والسلام، بينما تركزت مطالب الحراك في الجزائر في رحيل الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة وكل رموز النظام، ومحاربة الفساد. وفي لبنان، كانت المطالب محدّدة في رحيل الطبقة السياسية بمختلف انتماءاتها، وتشكيل حكومة محايدة، تجري انتخابات برلمانية مبكرة في ظل قانون إنتخابي جديد، يتجنّب الطائفية. أما العراق فقد تميز الحراك الشعبي السلمي فيه، ولأول مرة منذ الغزو الأميركي، بأنه اتخذ صبغة وطنية خالصة، بعيداً عن الطائفية المذهبية التي كانت سائدة.
تلك أهم سمات الحراك المعبّر عن إرادة شعوب تلك الدول الأربع، وأهم ما يميزه عن حراك شعوب دول الربيع العربي في العام 2011 الإصرار على السلمية في كل الظروف، والاستمرارية، وعدم القبول بالحلول الجزئية المؤقتة. ولأن الحراك لا يزال مستمراً، ولأنه لم يصل فى أي من البلدان العربية الأربع إلى منتهاه، وتباينت المسارات وردود الأفعال في كل حالة، علينا أن نتوقف أمام كل حالة في محاولةٍ لاستكشاف أبعاد المستقبل، واحتمالات مآلات
ذلك الحراك الممتد.
في مواجهة إرادات الشعوب، كانت هناك إرادات النظم القائمة بكل مقوماتها المتشابكة، من عناصر الدولة العميقة، وشبكات المصالح، والأهم القابضين على مفاصل الدول، سواء بالقوة المسلحة أو بالقوى القبلية والطائفية، وهي تختلف من بلد إلى آخر، وهذا الاختلاف هو السبب في تباين المسارات فى كل حالة، وما وصلت إليه.
السودان البلد الذي عانى من انقلابات عسكرية متتالية قرابة ستين عاماً منذ اختار الاستقلال عن مصر، آخرها انقلاب عمر البشير في عام 1989، والذي ظل جاثما على الشعب السوداني ثلاثين عاماً، ارتدى فيها البشير ثوباً إسلامياً، واستند إلى أحد تيارات الإسلام السياسي في محاولةٍ لصبغ حكمه بصبغة دينية. وشهد السودان خلال حكم البشير حروبا داخلية، انتهت بعضها باستقلال الجنوب، وبقيت نيران تلك الحروب مشتعلةً في دارفور وكردفان وغيرهما. وخرجت الجماهير في أواخر ديسمبر/ كانون الأول من العام 2018، تطالب بالحرية والعدل والسلام، وأصرت على مطالبها التي لا يمكن أن تتحقق إلا بالتغيير. وجاء رد فعل النظام سريعاً باستخدام العنف. وسقط الشهداء والمصابون، ولكن الشعب لم يروّعه رد فعل النظام، وسرعان ما تشكلت قوى “إعلان الحرية والتغيير” لتعبر عن الحراك الشعبي. عند ذلك أدركت قوى داخل النظام نفسه أن الحل يمكن أن يكون بمبادرة منها، فأعلن جنرالات ما تعرف باسم “اللجنة الأمنية” خلع البشير، وتشكيل مجلس عسكري انتقالي تسلم السلطة. ولكن الحراك الشعبي استمر، ولم يخدعه خلع البشير، وتم التوصل إلى اتفاق بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير على وثيقة دستورية، تؤسس لمرحلة انتقالية، تقودها ثلاث مؤسسات مؤقتة، مجلس سيادة مشترك عسكري/ مدني، وحكومة تكنوقراط محايدة، ومجلس تشريعي على أساس تمثيل مناطقي. تدير تلك المؤسسات المرحلة الانتقالية ثلاث سنوات ونصف السنة، تعد دستورا للبلاد وتجري انتخابات رئاسية وبرلمانية. وهكذا تم، إن جازالتعبير، “تبريد” الحراك الشعبى في السودان، بمجلس سيادي يرأسه الجنرال عبدالفتاح البرهان، رئيس المجلس العسكري الانتقالي الذي أزاح البشير، وحكومة تكنوقراط، يغلب عليها الطابع اليساري، ومجلس تشريعي لم يتم تشكيله بعد. ويبقى سؤال المستقبل: هل ستجري الأمور كما تم الاتفاق عليها؟ وهل سيتم تفكيك شبكات نظام عمر البشير، بكل مؤسساته، ودولته العميقة؟ هذا ما على قوى الثورة أن تتنبه له.
بعد أكثر من أربعين أسبوعاً من الحراك الشعبي الذي بدأ مطالباً بعدم التمديد بعهدة خامسة للرئيس بوتفليقة، ونجح بالفعل فى جعل النظام يستبعد بوتفليقة من المشهد. واستمر الحراك مطالباً برحيل كل رموز النظام، وتشكيل حكومة انتقالية تشرف على تعديلاتٍ دستورية وقانونية تعقبها الانتخابات. ظهرت إرادة النظام، ممثلة في القوات المسلحة ورئيس أركانها، الجنرال قايد صالح الذي أمسك فعليا بزمام السلطة، بدعوى تفعيل الدستور. وعين رئيسا مؤقتا وحكومة، ثم أعلن أنه يقوم بالإصلاحات التي يسعى إليها الحراك، وقام بتشكيل هيئةٍ وطنيةٍ للانتخابات. وأعلن عن إجراء انتخابات رئاسية، أجازت فيها هيئة الانتخابات خمسة مرشحين، ينتمون إلى نظام بوتفليقة. وأجريت الانتخابات فى هذه الظروف، وفاز المرشح عبد المجيد تبون، الوزير ورئيس الوزراء الأسبق. قبل بعضهم النتيجة، ورفضتها قوى الحراك التي قاطعت الانتخابات، وتمسّكت بمواقفها المطالبة بالتغيير. والسؤال: هل تنجح قوى النظام، الممسكة بالسلطة الفعلية، في “تبريد” الحراك، بدعوى عودة السيادة إلى الشعب؟ أم ستبقى إرادة التغيير هي المحركة للجماهير؟
لا يزال الحراك في كل من لبنان والعراق يراوح مكانه، وكذلك السلطة القائمة. وعلى الرغم من التشابه الكبير فى الحالتين، من حيث طبيعة المطالب الشعبية التي تتركز على رحيل الطبقات السياسية الممسكة بزمام السلطة، عبر نظام طائفي، مع الاختلافات فى طبيعة التركيبة المجتمعية، والمذهبية، بين الحالتين. على الرغم من ذلك، هناك تباين واضح فى ردود أفعال الإرادة السلطوية، بينما تجري الأمور في لبنان في مسار سياسي يغلب عليه الطابع السلمي، في محاولة “تبريد” حراك الشارع اللبناني، بالالتفاف حول مطالب الجماهير، باستقالة الحكومة، وإعادة تدوير الطبقة السياسية بوجوه جديدة وخطاب سياسى مختلف. ولكن في الإطار الدستوري، والقانوني، التوافقي القائم، نفسه. أما في العراق، فإن ردود أفعال القوى الممسكة بزمام الأمور اتسمت بالعنف المفرط، بشكل مباشر وغير مباشر، من قوى الأمن ومن مليشيات مسلحة، ما أدّى إلى سقوط نحو خمسمائة قتيل، إضافة إلى آلاف الجرحى. وفي هذه الأجواء، تجري أيضاً محاولة “تبريد” الحراك الشعبي، عن طريق الإلتفاف حول مطالبه، أيضاً، باستقالة الحكومة، ومحاولة إعادة تدوير القوى السياسية الطائفية، في إطار الدستور والقانون، بوجوه جديدة، وخطاب سياسي جديد أيضاً.
الأمور معلقة في كل من لبنان والعراق، وكل الأطراف تلعب على عامل الوقت، لعبة “عض الأصابع”. السؤال الأهم: ماذا يحمل المستقبل للشعوب التي خرجت تطالب بالتغيير، وتواجه قوى النظم القائمة بحراك سلمي؟ وهل ستنجح سلطة الأمر الواقع القائمة في تلك البلدان في “تبريد” حركة الشعوب، والالتفاف حولها واحتوائها؟ الإجابة تكمن في إرادة الشعوب ووعيها، ومدى استيعابها الدروس المستفادة من تجارب الآخرين. وعلى الرغم من كل شيء، الشعوب حتماً ستنتصر.
نقلاً عن “العربي الجديد”