يوافق اليوم الذكرى الـ105 لانتصار الدولة العثمانية، بكل مكوناتها من الترك والكرد والعرب، في معركة “جناك قلعة” التي انتهت بهزيمة ساحقة لجيوش الغرب الغازية (بريطانيا، فرنسا أستراليا، نيوزيلندا)، وخسروا أكثر من 252 ألف جندي.
جناك، أو جناق قلعة، هي مدينة تركية تقع على مضيق الدردنيل المحوري بين البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، في بداية العقد الثاني من القرن الماضي وتحديدا في عام 1915م خلال الحرب العالمية الأولى، عزمت كل من بريطانيا، فرنسا، أستراليا، نيوزيلندا، على شن حملة عسكرية سمّوها “حملة جاليبولي” لاحتلال إسطنبول عاصمة الدولة العثمانية آنذاك، وبطلب روسي للزحف إلى الشمال لمساندة روسيا ضد القوات الألمانية لتكبدها خسائر فادحة خلال الحرب، وأيضًا لأن المنطقة ذات طابع جغرافي وعسكري واقتصادي.
يقول الكاتب السوري عادل حنيف داود: “الترك والعرب والكرد وسائر المسلمين من البلقان إلى الهند، وقفوا صفا واحدا في جناق قلعة (مضيق الدردنيل) وانتصروا على أعتى قوتين (بريطانيا وفرنسا) وأذلوهما، عندما نكون صفا واحدا وأمة واحدة وتحت قيادة واحدة فلن ينتصر علينا أحد، ولن يملي علينا أحد رأيه”.
التكبير والتهليل
من جهته يقول الكاتب والمحلل السياسي التركي حمزة تكين: “تحل اليوم الذكرى 105 لمعركة “جناق قلعة” التي انتصر فيها العرب والأتراك والأكراد، يوم كانوا تحت راية واحدة انتصروا على الحلفاء الغزاة الذين كانوا يملكون قوة هائلة بالوحدة والتآلف يتحقق النصر.. بالتشتت والخصام والأحقاد والجماعات والأحزاب المتفرقة لا نصر ولا انتصار ولو بعد مليون عام”.
ومن وجهة نظر بريطانيا، فإن إسطنبول- وقد كانت تسمى القسطنطينية في العهد القديم- هي إرث لهم، وأن العثمانيين فتحوها بالتكبير والتهليل على يد السلطان محمد الفاتح، ويجب أن تعود مهما كلف الأمر، وباحتلال العاصمة فإن الدولة العثمانية تضعُف أكثر فأكثر.
بدأ التحالف بالتجهيز لهذه المعركة بالسفُن والأساطيل التي سوف تغزو وتدمر كل ما يقف في طريقها، وكان من المتوقع أن تكون المعركة سريعة وحاسمة، حيث إن الجنود وضباط الجيش كانوا يبعثون بالرسائل إلى أهليهم يبشرونهم بعودة المدينة وبالنصر العظيم الذي سوف يحققونه فيها.
ومن الجانب العثماني، فقد حشدوا كل طاقاتهم وقواتهم للتصدي للهجوم، فإن سقطت إسطنبول ستسقط الدولة برمتها، فما كان منهم إلا أن حشدوا المدافع والجنود لاستقبال الملحمة التي سوف يتذكرها العالم ويسطرها التاريخ.
وصل الأسطول إلى مياه مضيق الدردنيل، ولجسِ نبض القوات العثمانية ألقت المدمرات القنابل على بعض النقاط العسكرية فلم يتم الرد، فزادت ثقة قوات التحالف بنفسها، وظنوا أن الأمر سوف يكون أسرع وأسهل من المتوقع، وبعدها تحركوا لشن الهجوم، ولكن حدث ما هو غير متوقع، حيث إن الأسطول قد اصطدم بحقل ألغام مخفي، مما تسبب بخسائر كبيرة جعلتهم يتراجعون لأخذ خطة بديلة.
من تحت الأنقاض
ومن المواقف التي تُذكر في هذه المعركة، أن أسطول التحالف فتح نيرانه ضد المدفعية العثمانية، مما تسبب بضرب نقطة عسكرية مهمة للعثمانيين، حيث قُتل الجميع ودُمرت الرافعة التي تحمل القنابل، ولكن فجأة من تحت الأنقاض خرج رجل يُدعى “العريف سعيد تشابوك”، ونظر حوله فوجد أن كل شيء قد دُمر، فلملم نفسه وقام وأخذ بحمل قنبلة تزن ما يقارب 250 كيلوغرام على ظهره ووضعها في المدفعية، وقام بإطلاقها فأصابت أحد أهم سُفن التحالف، مما رفع المعنويات عند الجنود العثمانيين وبدءوا بالتكبير لرفع معنويات الجيش بأكمله.
لم تسكت بريطانيا وحلفاؤها على هذا النصر العثماني الذي قام على استدراج وحدات أسطول التحالف إلى مياه المضيق واصطيادها بسهولة وسط حقل الألغام البحرية، فرأت تعزيز الهجوم البحري على الدردنيل بهجوم بري، على أن يكون دور القوات البرية هو الدور الأساسي، في حين يقتصر دور القوات البحرية على إمداد القوات البرية بما تحتاج إليه من أسلحة وذخائر ومواد تموينية، ومساعدتها على النزول إلى البر، وحماية المواقع البرية التي تنزل بها.
وكانت القوات البريطانية البرية تتألف في معظمها من جنود أستراليين ونيوزلنديين، وهم معروفون بالبأس الشديد في القتال.
بدأت هذه القوات تصل إلى بعض المناطق في شبه جزيرة جاليبولي، حتى إذا اكتمل عددها بدأت هجومها ونزلت بعض قواتها في بعض المناطق، لكن خانها التوفيق في اختيار الأماكن الصالحة، إذ نزلت في أراض تنحدر تدريجيا نحو ساحل البحر، وقد انتهز العثمانيون هذه الفرصة واصطادوا القوات البريطانية والفرنسية المهاجمة وفتحوا النيران فوق رؤوسهم ليعلنوا بهذه الخطوة القيامة.
انتهت هذه المعركة التاريخية بانتصار الجيش العثماني على قوات التحالف بقيادة الامبراطورية البريطاني، وقُتل من جانب التحالف ما يقارب 300 ألف جندي، واستشهد من الجانب العثماني ما يقارب 250 ألف جندي.
إن هذه المعركة وغيرها من المعارك التي خاضتها الدولة العثمانية في تاريخها، وتحديدًا اليوم الأخير فيها الذي حسم الأمر هو يوم من أيام الله الذي ينتصر فيه الحق على الباطل، وتُرفع فيه رايات العدالة في الأرض، جيوش مجتمعة لم تستطع وتجرؤ على جيش واحد، وهم كانوا يفوقون الجيش العثماني بالعدة والعتاد.
آخر جيش إسلامي
من جهته يقول الباحث عمر الحسون: “إن لمعركة جناق قلعة رمزية خاصة عند المسلمين جميعا وعند العرب خاصة، فهذه المعركة جمعت جميع الشعوب الإسلامية في جيش واحد وتحت مظلة دولة واحدة، وقاتل إلى جانبهم الأبناء الأوفياء من غير الطوائف الذين نعموا بالحياة الكريم في ظل الدولة الإسلامية”.
وأضاف الحسون أن “هذه المعركة بقيت ذكرى رائعة في نفوس المسلمين، وأصبحت من بين الذكريات التي يتباهى بها لليوم أبناء الجنود العرب الذين كانوا جنودا مقاتلين في هذه المعركة، التي انتصر فيها آخر جيش إسلامي على تحالف دولي صليبي”.
وأشار الحسون إلى أن “الكثير من المقاتلين العرب حافظوا على ولائهم للدولة العثمانية، فتوفي غالبيتهم دون الحصول على جنسيات سايكس بيكو على أمل أن يعود ذلك التاج العثماني الذين جمعهم من المحيط إلى الخليج”.
وقال الحسون أيضا: إن “معركة جناق قلعة تميزت لدى العرب بمشاركة أحد أهم قادة الدولة العثمانية في بداية الحرب، وهو الصدر الأعظم للدولة العثمانية الشهيد سعيد حليم باشا المصري، رحمه الله، كما قدمت ولاية حلب العثمانية في هذه الحرب أكثر من 6 آلاف شهيد، كما ذكرهم المؤرخ التركي “أنس ديمير” في كتابه حول شهداء حلب في هذه المعركة”.
وتابع الحسون قائلا، إنه “عرف من أبطال معركة جناق قلعة الأمير فهد بن فرحان الأطرش ابن مدينة السويداء السورية، والذي كان مدير ناحية ديمرجي غربي تركيا، والذي أبلى بلاء حسنا في هذه المعركة وقضى بقية حياته في المنفى بسبب وفائه للدولة العثمانية وملاحقة الإنجليز له لرفضه التعاون معهم”.
كما عُرف من أبطال هذه المعركة عدد من أبناء إدلب وعفرين ومعرة النعمان، اشتهر منهم رشيد إيبو وحسن كريم آغا من عفرين، ونجيب عويد ويوسف السعدون من حارم، ومن جبل الزاوية حسون رحبي زاده الذي كان يعمل ضابطا في الوحدة التي دمرت البارجة البريطانية، التي كانت سببًا في إيقاف الحرب، حسب الحسون.
وختم الحسون قائلا: إن “هذه المعركة أصبحت ذكرى عطرة ومفخرة لكل من له جد قاتل فيها، ويحتفل بذكراها العديد من العرب الأوفياء للدولة العثمانية، وما زالت مقابر الشهداء في إسطنبول وجناق قلعة وشانلي أورفا تحتفظ بقبور آلاف الشهداء العرب الذين سقطوا في هذه المعركة، فعندما تزور مقبرة الشهداء في إسطنبول أو غاليبولي ستجد أسماء الشهداء بالإضافة إلى بلداتهم أو مناطقهم اليوم الموجودة في مختلف أنحاء الوطن العربي”.