تأميم العمل الخيري وحظر الدور الإغاثي للإخوان.. كورونا يفتح دفاتر الإجرام العسكري

- ‎فيتقارير

قبل سبع سنوات عجاف من الآن، وتحديدًا قبل انقلاب العسكر وانتشار مرض فيروس كورونا (كوفيد-19)، كان السائق أحمد عبد الرحمن يشق الطرق والجبال من القاهرة إلى جنوب سيناء لتسليم دفعة مالية ومعونات عينية لإحدى الجمعيات الخيرية المتكفلة بأسر عشرات اليتامى، التي تم التحفظ عليها بعد أشهر من الانقلاب العسكري في يوليو 2013.

في تلك الأثناء كان السائق الخمسيني ينقل شهريا ما يزيد على ستين ألف جنيه لمندوب جمعية مهتمة برعاية الأيتام بمدينة طابا، مشيرا إلى أنه كان يقوم بذلك متطوعا بجانب آخرين.

وبعد أشهر من الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي، أعلنت عصابة العسكر عن تشكيل لجنة لمصادرة وإدارة أملاك جماعة الإخوان المسلمين، قبل أن تستبدلها بقانون إجرامي آخر هو “تنظيم إجراءات التحفظ والإدارة والتصرف في أموال الجماعات الإرهابية والإرهابيين”!.

ومنذ الإعلان عن تشكيل اللجنة الأولى، صدرت قرارات تحفظ دون بيانات إجمالية عن حجم المؤسسات والجمعيات والأموال المتحفظ عليها، التي تقدر بالمئات.

وأوضح السائق عبد الرحمن أنه بادر في السنتين السابقتين للانقلاب بتقديم خدمة نقل المعونات النقدية والمالية لأسر اليتامى، نظرًا لطبيعة عمله سائقًا في نقل مواد البناء من القاهرة ومحافظات أخرى صوب جنوب سيناء.

وعن المستفيدين من تلك المعونات، قال إن عشرات الأسر كانت تنتظرها شهريًا، حيث كانت تغطي عدة مدن بتلك المنطقة النائية، من بينها سانت كاترين وأبو رديس وأبو زنيمة وطابا ورأس سدر.

السيطرة على الأموال

ولم يكتفِ الانقلاب العسكري بسرقة أموال الشعب، بل استمر في سرقة من يتكفل بالغلابة، حيث أعلنت حكومة شريف إسماعيل السابقة عن حل 71 جمعية أهلية في القليوبية، بزعم انتماء 41 جمعية منها لـ”جماعة الإخوان المسلمين“، وأرجع محللون الأمر إلى أن جنرال إسرائيل السفيه عبد الفتاح السيسي يسعي إلى السيطرة على الأموال التي تصل إلى الجمعيات الخيرية.

وقال المحلل الاقتصادي أحمد إبراهيم: “يبدو أن القائمين على الحكم في مصر ينقبون عن أي أموال لسد عجز موازنة الدولة، ومواجهة شح الموارد بسبب الاضطرابات السياسية والأمنية التي ضربت البلاد على مدار أكثر من ثلاث سنوات”.

وأضاف: ”الحكومة لا تكتفي بسرقة الشعب بل تتجه لسرقة من يكفله من جمعيات خيرية، بعد أن تخلت عنه الدولة“.

في 22 سبتمبر 1947، ضرب وباء الكوليرا مصر، وبدأ من محافظة الشرقية، لقربها من المعسكرات الإنجليزية، وحصد المرض ما يقرب من 12 ألف نسمة رغم الجهود التي بذلت للقضاء على المرض.

هكذا أورد الباحث عادل حسنين، في كتابه “مصر والمصريون من الملكية إلى الجمهورية”، مضيفا: “المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، كون فرقا من الشباب في نطاق عمل الجوالة ليحمل عبء العمل الخدمي في المجتمع ويغيث المنكوبين، حيث قاموا بعمليات التطعيم ضد الكوليرا وتجهيز السيارات للمرور في الأحياء الموبوءة لعملية التطعيم ومساعدة وزارة الصحة”.

ذلك الدور قامت به جماعة الإخوان قديما، ضمن سياج محكم من قواعد شعبية استطاعت أن تسد ثغر عجز الأنظمة القائمة، واليوم مع اشتداد جائحة كورونا في العالم، بدت مخاوف من عدم قدرة المنظومة الصحية والإغاثية في مصر على التعامل مع الأزمة.

كورونا كشف بقوة مواطن الضعف والوهن داخل المجتمع في ظل غياب الجمعيات الأهلية، ومنظمات العمل المدني، وجماعة الإخوان، كمؤسسات كانت لديها القدرة على حشد عشرات آلاف المتطوعين، الذين يمكنهم المساعدة وقت الكوارث، والأزمات الحياتية الكبرى.

الفقراء أولا

منذ انقلابه العسكري في 3 يوليو 2013، ووصوله إلى الحكم، دمر السيسي منظمات العمل المدني والجمعيات والمؤسسات الخيرية، ليأتي فيروس كورونا ومصر بلا أذرع قوية أو خطوط دفاع تجابه الفيروس وتحمي الوطن والمواطن.

منذ وصول السيسي للسلطة في يونيو 2014، شنت السلطات حملات قمعية، ضد الجمعيات الخيرية في سائر ربوع البلاد، بداية من الجمعية الشرعية، وأنصار السنة المحمدية، وغيرها من الجمعيات التي كانت تقدم خدمات تطوعية للمواطنين الفقراء، لا سيما توفير الغذاء والدواء ونفقات العلاج والزواج.

إجراءات السيسي ساهمت في زيادة الضغط على الطبقات الكادحة التي تعاني الفاقة نتيجة الإجراءات الاقتصادية الصعبة التي تفرضها الحكومة، والآن تواجه مخاطر الإصابة بفيروس كورونا، دون وجود قوة مجتمعية قادرة على رعايتها ورفع مستوى الوعي.

ومع التغول العسكري في مفاصل الدولة، وجميع مناحي الحياة السياسية والاجتماعية، انحسر العمل الأهلي في مصر، الذي كان يقوم على تعويض عجز النظام، وحماية ملايين المواطنين من أزمات كبرى.

في 24 مايو 2017، أقر البرلمان قانون “الجمعيات الأهلية”، الذي يفرض قيودا هائلة على تأسيس المنظمات غير الحكومية والجمعيات الأهلية، ويهدد عملها ويجفف منابعها، ويعاقب من يخالف القانون بالسجن لمدة تصل إلى 5 سنوات، وبغرامة تصل إلى مليون جنيه.

منظمة العفو الدولية نددت بالقانون الذي اعتبرته “ضربة كارثية” لجماعات حقوق الإنسان العاملة في مصر، فيما أعلنت منظمة هيومن رايتس ووتش في تقريرها بشأن القانون الصادر، أنه (دمر المجتمع المدني في البلاد، وحوله إلى ألعوبة في يد الحكومة).

هذه الخطوة جاءت في إطار الحملة الممنهجة لنظام السيسي على منظمات المجتمع المدني عقب 3 يوليو 2013، حيث تم التضييق على عمل نحو 47 ألف جمعية محلية، بالإضافة إلى 100 أجنبية وفقا للتقديرات الحكومية.

الدور الإغاثي للإخوان

في يناير 2015، قررت لجنة نهب أموال الإخوان، التي شكلها نظام السيسي، للاستيلاء على أموال ومقرات أعضاء جماعة الإخوان، التحفظ على جميع ممتلكات الجمعية الطبية الإسلامية وفروعها الـ25، في عدد من المحافظات، إضافة إلى الجمعية الطبية بـ”رابعة العدوية”، التى تتبعها 3 مستشفيات داخل القاهرة.

الجمعية الطبية التي تأسست عام 1977، كمشروع خيري يسعى إلى خدمة الناس وتقديم الخدمات الطبية والصحية الجيدة بأسعار رمزية، وقبل التحفظ عليها عام 2015، كانت تعالج نحو 2.5 مليون مريض سنويا.

وتجري نحو 60 ألف عملية جراحية، كما كانت الجمعية تخصص بكل فروعها صندوقا لإعانة الفقراء، وتقدم العلاج المجاني أو ببدل رمزي لنحو 550 ألف شخص سنويا، وكانت تنظم قوافل طبية شهرية في المناطق الفقيرة بأغلب محافظات مصر.

من جهته يقول الدكتور أحمد رامي الحوفي، أمين صندوق نقابة صيادلة مصر الأسبق: “إغلاق الجمعيات الخيرية، وتحديدا الطبية منها، مثل الجمعية الطبية الإسلامية، حرم المجتمع المصري بجميع فئاته وطوائفه، من خدمات كبيرة في مثل هذه الظروف العصيبة التي تمر بها البلاد”.

وأضاف: “منذ بداية ثورة 25 يناير، والمجلس العسكري، رصد الدور البارز الذي لعبته الجمعيات الأهلية، والمراكز الطبية الخيرية، وكذلك الأطباء داخل المجتمع بداية من إغاثة الثوار، وعمل المستشفيات الأهلية، إلى القوافل الطبية المستمرة التي كانت تجوب المحافظات والنجوع البعيدة، وهو ما دعاه لتحجيم دورها”.

وأردف الحوفي: “أعداد كبيرة من أعضاء المهن الطبية والأطباء دخلوا إلى السجون على خلفية معارضتهم للانقلاب، وآخرون هاجروا خارج البلاد، ويقومون بدورهم الإغاثي في بلاد أخرى، مصر كانت بحاجة حقيقية إلى تلك الجهود، فالعديد من الجمعيات الأهلية والمنظمات، وكذلك جماعة الإخوان المسلمين، تمرسوا وامتلكوا خبرات كبيرة عبر سنوات طويلة من العمل الإغاثي التطوعي داخل المجتمع المصري”.

الدور الإغاثي الذي لعبته منظمات المجتمع المدني، وجماعة الإخوان، كان حاضرا في التاريخ المصري الحديث، ففي 12 أكتوبر 1992، وقع زلزال شديد بمصر (بقوة 5.8 ريختر)، استمر لنصف دقيقة تقريبا ما أصاب معظم بيوت شمال مصر (القديمة منها)، بتصدعات وتهدم جزء منها، وتسبب في وفاة 545 شخصا، وإصابة قرابة 6 آلاف آخرين، وشرد حوالي 50 ألف شخص، وجعلهم بلا مأوى.

فورا وعلى عجل، تحركت جماعة الإخوان وحشدت كل طاقتها المادية والبشرية، لإنقاذ المنكوبين، ولعبوا دورا ملحوظا في تخفيف حدة الأزمة، وتجاوز آثار الكارثة.

الإحصاء الأخير

الباحث أحمد بان، يقول في كتابه “الإخوان المسلمون ومحنة الوطن والدين”، في شهادته عن تلك الواقعة: “كانت الكارثة كبيرة وكشفت حجم الفساد في المحليات والنقص الفادح في إمكانات التعامل مع الكوارث، فانتشرت على الفور فرق المتطوعين من الإخوان في الأماكن المنكوبة”.

وأضاف: “قامت نقابة المهندسين من خلال عدد من مهندسي الإخوان فيها بمعاينة المنازل المتضررة بأسرع مما تحركت به الجهات الرسمية، وكذلك قامت نقابة الأطباء من خلال لجنة الإغاثة الإنسانية التي كان يديرها الإخوان بنصب المخيمات وإعاشة المنكوبين والمساعدة في إخلاء الضحايا بدرجة واضحة من النظام والدقة التي كانت حديث وسائل الإعلام في الخارج”.

وأردف: “أثار ذلك حفيظة الحكومة التي تحركت بعدها مباشرة بإصدار قانون يحول دون وصول الإخوان لمجالس هذه النقابات”، ثم بدأت في السنوات التالية فصول المحاكمات العسكرية للإخوان، خلال عهد الرئيس الراحل حسني مبارك.

لعبت جماعة الإخوان المسلمين، والجمعيات والمؤسسات الخيرية، بجوار دورها الإغاثي، دورا آخر أمام الإجراءات الاقتصادية الصعبة، ودخول شرائح واسعة من المجتمع تحت خط الفقر، حيث كانت تدعم الأسر الفقيرة، وذوي الحاجة.

في 22 مايو 2019، كشف البنك الدولي، تضاعف نسب الفقر في مصر خلال 5 سنوات من 30 إلى 60 %، وأكد البنك أن إجراءات الإصلاحات الاقتصادية التي أعلنتها الحكومة، أثرت بشكل مباشر على الطبقة الوسطى التي تواجه ارتفاعا بتكاليف المعيشة، في ظل دخل محدود.

وجاء الإحصاء الأخير في وقت حدد فيه البنك الدولي، الفقر المدقع على مستوى العالم بنحو 1.9 دولار للفرد يوميا، ما يعادل 1026 جنيها مصريا، وتم تحديث خط الفقر بمصر في بحوث الإنفاق والدخل عن عام 2017، ليتراوح بين 700 و800 جنيه شهريا، بدلا من 482 جنيها شهريا ببحوث 2015.

وسبق للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر أن أعلن “ارتفاع معدلات الفقر في البلاد إلى 32.5 في المئة من عدد السكان بنهاية العام المالي 2017/ 2018، مقابل 27.8 في المئة لعام 2015/ 2016، بنسبة زيادة بلغت 4.7 بالمئة، وهي أكبر زيادة لنسبة الفقر في البلاد منذ 19 عاما”.

ليترتب على ذلك اضمحلال حاد للطبقة الوسطى التي باتت تقاوم، من أجل البقاء، في ظل عدم وجود داعم حقيقي، بعد وأد دور المؤسسات والجمعيات الخيرية.