«هدم المساجد» في سياق حرب السيسي على الهوية الإسلامية لمصر

- ‎فيتقارير

عداء السيسي للمساجد بات لا يحتاج إلى دليل أو برهان؛ ويكفي آلاف المشاهد والصور ولقطات الفيديو التي جرى بثها ونشرها حاليا على مواقع التواصل الاجتماعي وفضائيات الثورة لعشرات المساجد والمآذن التي دمرها السيسي، التي أصابت ملايين المسلمين في مصر والعالم بصدمة وغضب لا يعلم مداه إلا الله.
ويكفي أن قائد الانقلاب قد اعترف بشكل سافر بهدم نحو 35 مسجدا على طريق محور ترعة المحمودية الذي يربط محافظة البحيرة بالإسكندرية. وبرر السيسي هذه الخطيئة بأن هذه المساجد مخالفة وأقيمت على أرض الدولة. فلماذا لم يسع إلى تقنينها كما يفعل مع الكنائس المخالفة؟

وتؤكد الشواهد أن قائد الانقلاب ماض في هدم عشرات المساجد الأخرى؛ فقد ذكر في تصريحاته التي هدد فيها المخالفين في البناء بالجيش صباح السبت 29 أغسطس 2020م، بأن هناك نحو 77 مسجدا مخالفا على محور المحمودية. ومن دواعي الأسف أن عناصر الهيئة الهندسية التابعة للجيش والتي تشرف على مشروع محور المحمودية هي التي تتولى هدم وتدمير بيوت الله بكل جرأة ووقاحة.

خطورة الموضوع دفعت «مركز أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي» إلى إصدار دراسة في 28 يناير 2019م، أعدها الباحثان عوفر فنتور وأساف شيلوح، بعنوان «هوية مصر في عهد السيسي: السمات المميزة للإنسان المصري الجديد»، يشيدان فيه بهذه الخطوات غير المسبوقة؛ حيث تناولت الدراسة مظاهر ومآلات الحملة الواسعة التي يشنها نظام السيسي من أجل إعادة صياغة الهوية الوطنية لمصر؛ من خلال السعي أولا لتقليص مركّبها الإسلامي والعربي، وثانيا احتواء سماتها الثورية، وثالثا العمل على بناء جيل مصري جديد يكون أكثر استعدادًا للاصطفاف حول الأجندة التي يفرضها النظام.

أمام هذه المعطيات، لا يمكن الفصل بين حملة قائد الانقلاب عبدالفتاح السيسي ضد المساجد وهدم العشرات من المآذن بدعوى أنها أقيمت بالمخالفة للقانون عن مشهدين قبلها بسنوات يؤكدان أن عداء السيسي للمساجد هو جزء من تصوراته وأفكاره العدائية ضد الإسلام ذاته.

المشهد الأول، هو حرق مسجد رابعة العدوية والفض الدموي للاعتصام الذي أقامه أنصار الرئيس الشهيد محمد مرسي رفضا لانقلاب السيسي على الإرادة الشعبية؛ وهي الجريمة التي جرى بثها مباشرة على شاشات عدة فضائيات ولا تزال موثقة بالصوت والصورة حتى اليوم. حيث جرى قنص المعتصمين السلميين بسلاح الجيش والشرطة على نحو صادم كشف أن هذه المؤسسات جرى اختطافها لحساب مافيا عسكرية حاكمة لا يعنيها سوى حماية مصالحها ومصالح رعاتها على حساب مصر وشعبها. وجرى قتل أكثر من ألف مصري في هذا اليوم العصيب. في ذات اليوم جرى الاعتداء على مسجد الإيمان بالقرب من الاعتصام وبه عشرات من جثث الشهداء.
نفس الأمر تكرر بعدها بيومين مع مسجد الفتح برمسيس حيث اقتحمت مليشيات السيسي المسجد وجرى اعتقال عشرات المعتصمين بالمسجد اتقاء لقنص مليشيات العسكر. فهل كان يمكن لما يسمى بالمجتمع الدولي أن يمرر هذه الجرائم لو كان المعتدى عليها كنائس؟ وكان يمكن السكوت على هذه الجرائم لو كان القتلى نصارى؟ ولكن لأنهم مسلمون من الذين يؤمنون بالمرجعية الإسلامية سكت المجتمع الدولي نفاقا ورضاء لتمر الجريمة دون محاكمة أو محاسبة.

المشهد الثاني، عندما أجرى الجيش المصري مناورات تدريبية يوم الأربعاء 20 يوليو 2016م خلال حفل تخرج دفعة جديدة من طلبة الكلية الجوية، وكانت الصدمة المدوية أن التدريب الأساسي لهؤلاء الطلاب المتخرجين حديثا هو استهداف مجسم لمسجد بكامل تفاصيله! وحين أبدى المسلمون استياءهم من هذه "الإهانة الصادمة" لم يكترث رئيس الانقلاب عبدالفتاح السيسي وقادة الجيش الذين كانوا شهودا على الجريمة؛ ولم يقدم نظام الانقلاب ولا المؤسسة العسكرية اعتذارا عن هذه الإساءة وتلك الجريمة، وراحت ألآلة الإعلامية لنظام العسكر في مصر تبرر هذه الخطيئة بأنها جزء من تدريب الجنود على قصف المساجد التي يتحصن بها الإرهابيون حتى تزول الرهبة من نفوسهم، لكن الرسالة كانت قد وصلت في تأكيد على أن الانقلاب قد طال كل شيء في البلاد فهو انقلاب على الإسلام بدعوى الحرب على الإرهاب، بذات القدر الذي مثل فيه انقلابا على المسار السياسي الديمقراطي الذي أنتجته ثورة يناير 2011م.

ومن دواعي الأسف أن الأزهر التزم الصمت أمام هذه الجريمة ولم ينطق أحدهم بكلمة حق أمام سلطان جائر. الغريب أن الجيش البريطاني كان قد استخدم مجسم مسجد في تدريب عسكري سنة 2010م بميدان رماية داخل قاعدة عسكرية بمدينة برادفورد كان هدفا للقصف في دلالة غير خافية أن الحكومة البريطانية تعتبر المساجد التي تمثل رمزا للإسلام والمسلمين هي العدو الذي تتدرب القوات البريطانية على قصفه واستهدافه. المشهد الذي تناولته بالنقد صحيفة "التلجراف" البريطانية في 8 إبريل 2010م، كان مشينا وعنصريا وبالغ الإساءة؛ أفضى إلى ردود أفعال غاضبة من جانب المسلمين والمدافعين عن حقوق الإنسان. الأمر الذي أجبر الحكومة البريطانية على سحب المجسم وتقديم اعتذار علني للمسلمين.
فعلها الإنجليز واعتذروا وفعلها السيسي وجيشه ولم يعتذر أحد في تأكيد على حجم الانقلاب الذي جرى في العقيدة القتالية للجيش المصري.

حرب على الهوية الإسلامية
ويعزو مراقبون حرب السيسي على المساجد بالخوف من الهوية الإسلامية والعمل بالتدريج على تكريس نسخة من العلمانية المتطرفة في مصر؛ يدلل على ذلك أن السيسي في أول حوار صحفي له مع الواشنطن بوست، بعد مرور شهر واحد على انقلابه العسكري، أكد للصحفية (ليلي ويموث) أنه ما قدم إلى الحكم إلا لإجهاض المشروع الإسلامي الذي أراده الرئيس "محمد مرسي"، حيث قال نصا: "لو كان الانقلاب عليه لفشله، كنا صبرنا عليه لانتهاء مدته، ولكنه أراد إحياء المشروع الإسلامي والخلافة".
وبعد عام كامل من هذا الحوار، وفي لقاء له مع فضائية "العربية" ذات التوجه العلماني قال نصا: "لن يكون في مصر قيادات دينية ولن أسمح بذلك، فأنا المسئول عن الأخلاق والقيم والمبادئ"، ثم أكمل قائلا: "والدين أيضا"، وهنا قاطعته المذيعة متسائلة: "والدين أيضا؟!"، فأكد السيسي فكرته: "وعن الدين أيضا".

لكن السيسي عاد في 2017 م أكثر صراحة ووضوحا في تعامله مع الإسلام، حين صرح لشبكة "فوكس نيوز" الأمريكية (المعروفة بتوجهاتها المتطرفة) بأنه لا مكان للدين في الحياة السياسية بعهده. فالسيسي لا يؤمن بالعلمانية المحايدة التي تقف موقفا وسطا من جميع الأديان؛ بل يرى في الأديان تابعا للسلطة توظفه لخدمة أهدافها كفيما تشاء؛ ولعل هذا يفسر سياساته خلال السنوات الماضية فهو دائم الاتهام للإسلام بالتسبب في العنف والتطرف والإرهاب والعمل على تركيع رموزه ومؤسساته الدينية في الوقت الذي يبدي فيه توددا ملحوظا للكنيسة ورموزها ويعمل باستمرار على استرضائها، ويكون أكثر خنوعا وتوددا لكل ما هو يهودي وهو ما يبدو بوضوح شديد خلال لقاءته التي جمعته بوفود يهودية خلال السنوات الماضية.