فجّرت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن توجه نظام الديكتاتور عبدالفتاح السيسي نحو شن عمل عسكري ضد إثيوبيا لتفجير سد النهضة ردود فعل متباينة خلف الكواليس والغرف المغلقة؛ وهناك شبه إجماع في المجتمع الدولي على رفض مثل هذا التوجه ما يمثل فشلا ذريعا لنظام السيسي ودبلوماسييه الذين لا يجيدون سوى النفاق والتطبيل لزعيم الانقلاب لكنهم هواة فاشلون في وظائفهم التي يتقاضون فيها ملايين الدولارات دون تحقيق إنجاز يذكر.
تصريحات "ترامب" جاءت بطلب من نظام السيسي، حيث نقلها حليفا النظام في الحكومتين الصهيونية والإماراتية، وانتقد ترامب أديس أبابا على خلفية بنائها سد النهضة الذي قد تعمد مصر "إلى تفجيره" حسب قوله. وقال ترامب، خلال اتصال هاتفي مع رئيسي الحكومة السوداني والصهيوني، "إنه وضع خطر جدًا، لأن مصر لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة". وأضاف "سينتهي بهم الأمر إلى تفجير السد. قالوها ويقولونها بصوت عالٍ وواضح: سيفجرون هذا السد… وعليهم أن يفعلوا شيئًا". وتابع "كان ينبغي عليهم إيقافه قبل وقت طويل من بدايته"، مبديًا أسفه لأن مصر كانت تشهد اضطرابًا داخليًا عندما بدأ مشروع سد النهضة الإثيوبي عام 2011. وقال "لقد أعددت لهم اتفاقًا، لكن إثيوبيا انتهكته للأسف، وما كان ينبغي عليها فعل ذلك. كان هذا خطأ كبيرًا".
وفي هذا التقرير نرصد أهم أبعاد الأزمة وجوانبها.
أولا، تهديدات صينية روسية للقاهرة: وزارة الخارجية بحكومة الانقلاب وجهاز المخابرات العامة الذي يشرف على التصدي للأزمة قد فشلا بشكل واسع -خلال الفترة الماضية التي توقفت فيها المفاوضات- في انتزاع دعم قوى دولية كبيرة مؤثرة وفي مقدمتها الصين ورسيا نحو الموقف المصري الذي يدور حول ضرورة أن يكون الاتفاق ملزما وقواعد ملء وتشغيل السد توافقية بما يضمن حماية حصة مصر المائية المقدرة بنحو "55.5" مليار م مكعب سنويا. ووفقا لمصادر مصرية بحسب صحيفة "العربي الجديد"، فإن كلا من موسكو وبكين رفضتا بشكل قاطع شن أي عمل عسكري ضد إثيوبيا تحت أي ظرف من الظروف ووصفته ذلك بالعمل العدائي غير المقبول.
ثانيا، في ذات السياق، فإن الرئيس الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا، والذي يتبنى موقفًا داعمًا لإثيوبيا، حذَّر القاهرة أيضا من الإقدام على أي (عمل عدائي)، أو تصعيد الأزمة بعيدًا عن المسارات التفاوضية والحلول السياسية، وذلك بعد إطْلاع إثيوبيا على ما أسمته تهديدات مصرية. وأضافت أن الرئيس الجنوب إفريقي أكد أن "طرد" مصر من الاتحاد الإفريقي سيكون أول إجراء سيتخذ ضدها وقتها، وهو الإجراء الذي من شأنه تشجيع القوى الدولية على إجراءات عقابية ضد القاهرة.
ثالثا، فشلت أجهزة السسيسي المخابراتية في إغراء الشركات الأجنبية العاملة في إنشاءات سد النهضة، حيث جرى التواصل بالفعل وإغراء هذه الشركات بامتيازات تتعلق بالاستثمار المدعوم في مصر وبتسهيلات كبيرة مقابل التجاوب مع المطالب المصرية والعمل على إبطاء وتيرة العمل بالسد من أجل تعطيل تشغيله لأطول فترة ممكنة حتى التوصل لاتفاق مع إثيوبيا. لكن هذه الشركات لم تتجاوب بالشكل المطلوب وبما يحقق الأهداف المصرية.
رابعا، هناك حالة قلق تسود في أروقة نظام الانقلاب بالقاهرة؛ لأن نظام السيسي راهن ولا يزال يراهن على الرئيس ترامب بينما تتواصل إثيوبيا بشكل كبير مع حملة دعم المرشح الديمقراطي جو بايدن والذي تؤكد استطلاعات الرأي أن فرص نجاحه أكبر بكثير؛ وبالتالي فإن القاهرة لا تضمن مثل هذا الدعم الحالي من ترامب إذا سيطر الديمقراطيون على البيت الأبيض. وقد أعدت أجهزة السيسي بالفعل خططا بديلة حال فوز بايدن لكن نجاح هذه الخطط يبدو ضعيفا أمام نظرة حملة بايدن لآبي أحمد رئيس الحكومة الإثيوبية باعتباره قائدا تحرريا جديدا قادرا على إرساء تجربة ديمقراطية في القارة السمراء، بينما ينظرون إلى السيسي بوصفه جنرالا سطا على الحكم بانقلاب عسكري، وإن كان ذلك لا يمنع من التعامل مع نظامه بما يضمن المصالح الأمريكية في مصر والمنطقة.
خامسا، يميل الموقف الأوروبي نحو دعم مسار التفاوض ورفض أي عمل عسكري؛ حيث قال المفوض الأعلى للشئون الخارجية والأمن بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في بيان، إن أكثر من 250 مليون شخص يقيمون في حوض النيل الأزرق قد يستفيدون من اتفاق محتمل يعتمد على توافق بشأن ملء سد النهضة. وأوضح بوريل أنه "بات بإمكان مصر والسودان وإثيوبيا بلوغ اتفاق بشأن ملء السد، والآن هو وقت للتصرف وليس لزيادة التوترات". وأعرب عن الدعم الأوروبي الكامل لجهود جمهورية جنوب إفريقيا التي تترأس حاليًا الاتحاد الإفريقي لدفع الأطراف إلى حل تفاوضي، مضيفًا أن الاتحاد الأوروبي يتطلع إلى استئناف محادثات سد النهضة في أسرع وقت وإتمامها بنجاح.
سادسا، في الوقت الذي يزداد موقف القاهرة ضعفا تعمل الحكومة الإثيوبية على تعزيز موقف بلادها بعدما تمكنت من انتزاع دعم جارتيها إريتريا وجنوب السودان وقطع الطريق على نظام السيسي في هذا الإطار؛ كما اتخذت أديس أبابا قرارا بحظر الطيران فوق سد النهضة بعد التهديدات المصرية بتفجير السد. كما يواجه نظام السيسي أزمة حقيقية في ظل التقارب السوداني الصهيوني، وإعلان قرار التطبيع بين البلدين؛ لأن هذا القرار من شأنه مأسسة التواجد الصهيوني في هذه المنطقة، وتصاعد حرب المياه.
سابعا، استحالة الخيار العسكري المباشر في ظل المعطيات الراهنة، فرغم صفقات السلاح الضخمة التي أبرمها السيسي لشراء شرعية نظامه إلا أن القاهرة لا تملك أسلحة قادرة على تفجير السد. وكانت صحيفة "العربي الجديد" قد نقلت عن مصادر خاصة بحكومة الانقلاب استحالة الخيار العسكري كحل للأزمة؛ وذلك لأسباب عدة، أهمها عدم تأثير القاذفات التقليدية من طرازات مثل "أف 16" الأمريكية، و"رافال" الفرنسية، في الإنشاءات الحالية للسدّ، وذلك في حال التوصل لتفاهمات مع دول جوار بشأن تنفيذ الضربة.
وأكدت أن هناك نوعين فقط من القاذفات الجوية القادرة على تنفيذ هجمات من شأنها تعطيل العمل بالسد وإحداث تلفيات وعيوب تضمن توقف العمل به لأنها قادرة على حمل كميات ضخمة من القنابل والطيران لمسافة طويلة. وهما (بي 52 الأمريكية" والتي تحمل نحو 35 ألف كيلوجرام متفجرات وطرازا توبوليف 95 و160 الروسيان، والتي تقدر على حمل نحو 40 ألف كيلوا جرام متفجرات لمسافات طويلة). وهذه النوعية من القواذف لا يمتلكها الجيش المصري.
الخلاصة، رغم رفضنا القاطع لنظام الانقلاب ومنحه أي شرعية لاغتصابه الحكم بانقلاب عسكري وعصفه بالمسار الديمقراطي ووأد الحريات، إلا أن أزمة مياه النيل تخص الشعب المصري كله، والجوع والعطش الناتج عن هذه الأزمة سيطول الجميع دون استثناء، وعلى الأرجح فإن كبار قادة النظام لن يمسهم وأسرهم أي سوء وسوف يبقى الشعب وحده هو من يعاني. ليس أمام نظام الانقلاب رغم فشله المتواصل إلا الضغط بكل الطرق من أجل تفجير سد النهضة؛ فهذا العمل رغم أن له تداعيات سلبية كبيرة على مستقبل العلاقات مع أديس أبابا إلا أن تصعيد نبرة التهديدات وجديتها ربما يكون كفيلا بدفع المجتمع الدولي للضغط على أديس أبابا لإنجاح مسار التفاوض والقبول بملء الخزان وتشغيله في عدد سنوات أكبر بما يضمن تقليل الكوارث الناتجة عنه على القاهرة لأدنى مستوى ممكن.