انقلاب جديد بمالي.. متى يتوقف الصراع الغربي على ثروات البلاد المسلمة؟

- ‎فيعربي ودولي

شهدت دولة مالي التي تقع في شمال غرب إفريقيا انقلابا عسكريا جديدا الإثنين 24 مايو 2021م؛ حيث أعلن رئيس المجلس العسكري في مالي، العقيد أسيمي غويتا، تجريد الرئيس الانتقالي باه نداو، ورئيس الوزراء مختار وان، من صلاحياتهما، وإجراء انتخابات العام المقبل، في خطوة أثارت تنديدا دوليا وإقليميا ودفعت فرنسا للتهديد بفرض عقوبات على قادة الانقلاب.

وبحسب وكالة رويترز، اتهم غويتا الرئيس الانتقالي ورئيس الحكومة بما أسماه محاولة التخريب، في إشارة إلى تشكيل الحكومة الجديدة التي استبعد منها عقيدان بارزان من المجلس العسكري السابق الذي أطاح بالرئيس إبراهيم بوبكر كيتا في انقلاب أغسطس 2020م. وقال الحاكم العسكري الجديد -في بيان أصدره الثلاثاء- إن الرئيس أنداو ورئيس الوزراء شكلا حكومة دون استشارته وهو يضطلع بالمسؤولية عن ملفي الدفاع والأمن، وهما حساسان في بلد ساحلي يواجه مخاطر كبيرة. وقد أفادت مصادر محلية بأنه تم اقتياد نداو ووان إلى ثكنة "كاتي" العسكرية قرب العاصمة باماكو، وقام الجيش بمحاصرتها.

تنديد دولي وتلويح بالعقوبات

وهددت فرنسا التي تحظى بنفوذ واسع في مالي بفرض عقوبات على قادة الانقلاب الجديد؛ وقال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن ما قام به العسكريون في مالي انقلاب، وإن بلاده مستعدة لفرض عقوبات تستهدف الأطراف المعنية، أما وزير الخارجية جون إيف لودريان فقال إنه إذا لم تكن هناك عودة فورية للمسار الانتقالي فإن باريس ستتخذ خطوات ضد العسكريين الذين يعيقون ذلك. وطالب لودريان بالإفراج الفوري عن وان ونداو، والعودة إلى عملية الانتقال إلى السلطة المدنية. وأكد أن باريس طلبت عقد اجتماع طارىء لمجلس الأمن الدولي بعد الانقلاب في مالي.

ودعت واشنطن إلى الإفراج غير المشروط عن الرئيس نداو ورئيس حكومته ووزير الدفاع، ومن جانبها حثت الأمم المتحدة على التهدئة. كما دعا الأمين العام للمنظمة الدولية أنطونيو غوتيريش -في تغريدة على تويتر- إلى الهدوء في مالي، وإطلاق سراح المسؤولين المحتجزين. ودعت البعثة الأممية في البلاد إلى إطلاق رئيسي البلاد والحكومة، وقالت في تغريدة على تويتر إن من يحتجزونهما يجب أن يتحملا مسؤولية أفعالهما، حاثة على حفظ السلامة الجسدية للشخصيتين.

 وقد أعربت لجنة المتابعة المشتركة للاتحاد الأفريقي والبعثة الأممية ومنظمة إيكواس في مالي -في بيان مشترك- عن قلقها بشأن الوضع في هذا البلد.وأدان البيان المشترك محاولة استخدام القوة الذي أعقب نشر التشكيلة الجديدة للحكومة، وطالب بإطلاق المعتقلين فورا، وتعهد بمتابعة الضالعين في الاعتقالات.

وجاء اعتقال المسؤولين عقب الإطاحة بالرئيس كيتا بانقلاب عسكري في أغسطس الماضي 2020م، وكان نداو ووان مكلفين بالإشراف على مرحلة انتقالية تستمر 18 شهرا للعودة إلى الحكم المدني بعد الانقلاب، لكن كثيرين بالحكومة والمعارضة كانوا قلقين إزاء سيطرة الجيش على مناصب مهمة.

ما وراء الانقلاب

وبحسب مراقبين فإن وراء هذه الانقلابات  العسكرية التي تشهدها دولة مالي المسلمة ثلاثة أبعاد:

البعد الأول، أن هذه الانقلابات العسكرية تمثل بحد ذاتها استباقا لثورة شعبية قد تطيح بالحكم العسكري وتؤسس دولة ديمقراطية  بنكهة إسلامية يكون للشعب دور كبير في صناعة القرار بها وتحقيق استقلال حقيقي عن النفوذ الأجنبي الذي بات يسيطر فعليا على البلاد،  فقد شهدت مالي ثلاثة انقلابات عسكرية خلال العقد الماضي؛  الأول سنة 2012م، والثاني في أغسطس 2020م والثالث الإثنين 24 مايو 2021م. وقبل انقلاب العام الماضي نشرت مجلة "لوبوان" الفرنسية تقريرا حذرت فيه من سيطرة الإسلاميين على الدولة خصوصا أن الإمام محمود ديكو هو من قاد الانتفاضة الشعبية ضد فساد حكم الرئيس السابق إبراهيم بوبكر كيتا، ورغم أن الإمام أيد كيتا في انتخابات 2013م، لكنه اعتذر عن ذلك وقاد انتفاضة شعبية ضد فساد الرئيس واعتبر ذلك تصحيحا لخطأه القديم.

الإمام ينأى بنفسه عن تولي السلطة السياسية بشكل مباشر ويقدم نفسه على أنه سلطة أخلاقية "بعيدة عن النزاع والمناكفات" لكنها سلطة ذات رأي واضح. واقتصار ديكو على المقاربة الدينية يعني أيضًا التقليل من شأن الطبيعة غير المتجانسة للحركة التي يقودها والتي أصبحت تضم جميع الساخطين على النظام الحاكم. ويبدو أن "الإمام" مدرك عن وعي أن دور المشرف على اللعبة السياسية يناسبه بشكل أفضل من دور اللاعب السياسي بشكل مباشر، وسيساهم، كما فعل بالماضي، في دعم الشخصية التي يراها مناسبة، وهو في الوقع قادر على وضع الشخص الذي يختاره على رأس السلطة.

"الإمام" اكتسب شهرته كرئيس للمجلس الإسلامي الأعلى (2008-2019) من خلال النضالات السياسية المختلفة التي خاضها في هذا السياق بحكم منصبه، إذ برز في معركته ضد قانون الأسرة بين عامي 2009 و2011، وفي تدخله لحل الأزمة المالية منذ عام 2012، وكذلك دوره بالانتخابات الرئاسية عام 2013، ناهيك عن معارضته لإدخال التربية الجنسية في المناهج التعليمية عام 2019، وقضايا أخرى مختلفة. وأقر التقرير أن قوة الإمام الوحيدة تكمن في قدرته على تعبئة الناس، وقد استغل ذلك لمواصلة معاركه والاستمرار في التأثير على المشهد السياسي الوطني. لكن انقلاب 2020  جاء ليقطع الطريق على سيطرة الشعب على السلطة لتبقى نسخة عسكرية جديدة مهيمنة على البلاد.

البعد الثاني، أن مالي (19 مليون نسمة) التي استقلت صوريا عن فرنسا سنة 1960م تشهد تدخلا فرنسيا سافرا في صناعة القرار وتتلاعب بالنخبة العسكرية والسياسية كما تتلاعب برقعة الشطرنج، وقادت فرنسا حملة عسكرية في 2013م بدعوى وقف جماح "التهديد الإسلامي"  وإعادة إعمار البلد، والاستجابة لاحتياجات السكان الأمنية، وبسط العدالة، لكن أيا من هذه القيم لم يتحقق، وفق ما كتبته صحيفة "لوموند" الفرنسية، في الذكرى الثامنة للتدخل الفرنسي قائلة إنه "بعد ثماني سنوات من العمليات التي أطلقها الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند لوقف زحف الإرهابيين على العاصمة المالية باماكو، لم تتمكن باريس من تحقيق أهدافها واندلعت الصراعات المسلحة ذات الطابع العرقي في منطقة الوسط، وعادت الانقلابات مرة أخرى إلى الجنوب، وتحطمت الوعود الفرنسية مع فشل الرئيس إبراهيم بوبكر كيتا، الذي عوقب في أغسطس 2020، بإطاحته في انقلاب عسكري، كما أنها لم تمنع تصاعد العنف بين المدنيين ولا الاختراقات الإسلامية (وسط مالي)، ولا نقل العدوى إلى النيجر وبوركينا فاسو المجاورتين".  وبالتالي فإن الهدف من هذه الانقلابات التي تدعمها على الأرجح قوى غربية نافذة (فرنسا ــ الولايات المتحدة الأمريكية).

البعد الثالث، هو بقاء هذه الدول ممزقة وضعيفة و هشة حتى تتمكن المافياوات المرتبطة بفرنسا وغيرها من القوى الغربية قادرة على نهب الثروات الهائلة لهذه الدولة  المسلمة.  ويعزو مراقبون بشكل رئيس تصاعد التدخل الخارجي، سواء الإقليمي والدولي إلى حجم الثورات الطبيعية التي تمتلكها تلك المنطقة في غرب القارة السمراء، بعد أن أضحت الاكتشافات الضخمة من اليورانيوم والنفط والغاز والنحاس والفوسفات والبوكسيت والأحجار الكريمة والذهب مثار اهتمام القوى الدولية، لا سيما فرنسا، دولة الاحتلال السابقة (تعتمد على الطاقة النووية لتوليد أكثر من 60 في المئة من كهربائها)، ما يعني كذلك أن تأزم الوضع الأمني يبقى مثار تهديد ملح لمصالح تلك الدول.

وفي عام 2011، ذكرت تقارير وزارة المناجم المالية، أن باماكو، إحدى أهم الدول الأفريقية التي تمتلك احتياطات ضخمة من النحاس واليورانيوم والفوسفات والبوكسيت والأحجار الكريمة والذهب والنفط والغاز.  وفي عام 2018، تبوأت مالي المرتبة الثالثة أفريقياً في إنتاج الذهب، بواقع 61.63 طن بعد كل من جنوب أفريقيا وغانا، حيث سجل المعهد المالي للإحصاء ارتفاعاً في صادرات البلاد من الذهب بواقع 15.4 في المئة، مع بلوغ صادرات تلك الدولة البالغ مساحتها 1.24 مليون كيلومتر مربع، 2.4 مليار دولار أميركي، بما يساهم ما نسبته سبعة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي و70 في المئة من إجمالي حجم الصادرات.

وفي وقت تقدر فيه احتياطات مالي من خام اليورانيوم بنحو 100 مليون طن، تحصي تقديرات فرنسية، إنتاج باماكو من الفوسفات بنحو 150 ألف طن مع وجود احتياطيات قدرها نحو 20 مليون طن، و600 ألف من فوسفات الكالسيوم و200 ألف طن من الحجر الجيري، أما على صعيد خام البوكسيت والحديد، فتتجاوز احتياطيات تلك الدولة الأفريقية أكثر من 1.2 مليار طن من الأول وأكثر من ملياري طن من الثاني. وعلى الرغم من الاحتياطيات المعدنية الكبيرة في مالي، لا تزال الأخيرة واحدة من أفقر الدول الأفريقية والعالم، إذ يقول صندوق النقد الدولي، إن نسبة الفقر في البلاد بلغت أكثر من 42 في المئة في عام 2019، مع نسبة بطالة تقترب من حاجز 10 في المئة.  وبحسب وكالة الصحافة الفرنسية، فإن "رائحة البترول وأخبار اكتشاف المعادن النفيسة كاليورانيوم والذهب في هذا البلد يطرح أكثر من تساؤل حول دوافع المساعي الدولية والإقليمية". ووفق ما نقله التلفزيون الألماني "دي في" في تقرير سابق العام الماضي، عن ناتالي يامب، المستشارة لحزب "الحرية والديمقراطية لجمهورية ساحل العاج"، فإنه وبعد "60 عاماً لم تنل الدول الأفريقية الفرانكفونية استقلالاً حقيقياً ولا حرية بعد، وأن الأمر يبدأ من المدارس التي تقرر مناهجها في فرنسا".