{وَتِلۡكَ ٱلۡأَیَّامُ نُدَاوِلُهَا بَیۡنَ ٱلنَّاسِ}.. سنة كونية تأكدت عبر ملايين القصص والحكايات، وتبدو أكثر بروزا في حيات الملوك والسلاطين والأمراء والرؤساء. ولعل قصة قائد الانقلاب العسكري في موريتانيا سنة 2008م خير برهان على ذلك.
الرئيس السابق لموريتانيا محمد ولد عبالعزيز حكم البلاد "11" سنة بعد أن قاد انقلابا عسكريا على الرئيس المنتخب سيدي محمد ولد الشيخ عبدالله في 6 أغسطس 2008م لأن الرئيس قرر إقالة عبدالعزيز الذي كان رئيسا لأركان الحرس الرئاسي ولفيف من قادة الجيش الذين علم الرئيس أنهم يدبرون انقلابا عليه وعلى النظام الديمقراطي الوليد، فما كان منهم إلا أن رفضوا قرار الإقالة واعتقلوا الرئيس ورئيس الحكومة وزجوا بهما في السجن بتهم ملفقة.
خلال الأيام الماضية دخل الرئيس السابق لموريتانيا السجن بعد أن قرر القاضي المكلف بالتحقيق معه في اتهامات الفساد الموجهة للرئيس السابق منذ مارس 2021م. وقال قاض في النيابة العامة لوكالة فرانس برس طالبا عدم نشر اسمه، إنّ عبد العزيز الذي تولّى الرئاسة من 2008 ولغاية 2019، والمتّهم بالفساد وتبييض الأموال والكسب غير المشروع وإساءة استغلال السلطة، أودع الحبس بقرار من قاضي التحقيق.
وكان قاضي التحقيق وضع ولد عبد العزيز في 12 مارس 2021 تحت الرقابة القضائية، بعد أن وجه له 10 تهم تتعلق بغسيل الأموال والإثراء غير المشروع واستغلال النفوذ. وفُرض على الرئيس السابق الحضور إلى الشرطة 3 مرات في الأسبوع(تدابير احترازية كالتي تحدث مع المعتقلين السياسيين في مصر)، وأن يطلب إذنا من القاضي لمغادرة العاصمة نواكشوط. وإلى جانب ولد عبد العزيز، وجهت تهم الفساد لصهره ورئيسين سابقين للحكومة وعدد من الوزراء ورجال الأعمال.
ويأتي إيداع الرئيس السابق السجن بعد أيام على قراره التوقّف عن الحضور إلى مركز الشرطة، مخالفاً بذلك أحد شروط الإقامة الجبرية المفروضة عليه.
التنكيل بولد عبدالعزيز يأتي على يد خليفته الرئيس الحالي محمد ولد الشيخ الغزواني وهو جنرال أيضا وأحد قادة الانقلاب في 2008م على الرغم من أن ولد عبدالعزيز هو من مهد الطريق أمام الغزواني الذي كان مديرا لمكتبه ووزيرا سابقا بحكومته. ويقول ولد عبد العزيز أنّه ضحية "تصفية حسابات"، لكنّ خليفته يدافع باستمرار عن استقلال القضاء. وكان ولد عبد العزيز ألمح إلى عودته للسياسة في أبريل، من خلال إنشاء حزب معارض صغير أطلق عليه اسم "الرباط الوطني".
أمام إجراءات التنكيل التي يتعرض لها ولد عبدالعزيز وإهانته إلى الحد الذي يلزمه بالحضور لقسم الشرطة ثلاث مرات أسبوعيا؛ هدد الرئيس السابق بقطع الصمت والكشف عن معلومات سرية من شأنها هز البلاد وتغيير الكثير من الأمور، من دون أن يوضح طبيعة المعلومات التي يمكن أن يكشفها، أو الجهة التي يمكن أن تتضرر منها.
وأفادت تقارير محلية بأن الرئيس السابق قرر الإجابة عن أسئلة قاضي التحقيق، وتعهد بكشف أمور خطيرة من شأنها أن تسبب حرجا للنظام الذي قدمه للمحاكمة.
انقلاب 2008م
بدأ ولد عبدالعزيز في الظهور على مسرح الأحداث في عهد الرئيس الأٍسبق معاوية ولد طايع، ولم يعرف عن ولد عبدالعزيز أنه نال درجة علمية أعلى من الابتدائية، لكن الرئيس الأسبق استعان به في حرسه الخاص، ثم كلفه بتشكيل كتيبة للحرس الجمهوري والتي تحولت بمرور الوقت إلى نجم قوة السلاح الموريتاني، وباتت قوة ضاربة اعتمد عليها ولد عبد العزيز في الإطاحة بولد الطايع في انقلاب 2005م الذي قاده الجنرال ولد محمد فال الذي تحول إلى سوار ذهب موريتانيا، حيث أجرى انتخابات ديمقراطية فاز بها سيد محمد ولد الشيخ عبد الله، برئاسة البلاد في انتخابات ديمقراطية. لكن ولد عبدالعزيز دبر انقلابا عسكريا في 2008 ضد الرئيس المنتخب وحكم موريتانيا حتى 2019م حكما قمعيا استبداديا وفاز برئاستها مرتين خلال هذه الفترة في انتخابات مسرحية على غرار الانتخابات التي فاز بها رئيس الانقلاب العسكري في مصر عبدالفتاح السيسي.
حملات التضليل وتزييف الوعي
في سنوات حكمه الأولى حاول قائد الانقلاب في موريتانيا تكوين قاعدة جماهيرية مؤيده لحكمه فاتخذ عدة إجراءات وسياسات تستهدف اكتساب المزيد من الشعبية وتكريس حكمه العسكري. حيث حمل ولد عبد العزيز سلسلة من الألقاب التي ظلت مثار سخرية من المعارضة والمدونين مثل رئيس الفقراء، ورئيس العمل الإسلامي، والرئيس المؤسس. وقد كسب خلال سنواته الأولى في الحكم شعبية واسعة، من خلال الشعارات التي دخل بها المشهد السياسي مثل الحرب على الفساد، وتدعيم البنى التحتية، وشق الطرق، إضافة إلى قطع العلاقات مع إسرائيل والتي بدأها الرئيس الأسبق معاية ولد الطايع سنة 1999 تحت رعاية أميركية، وبعض الخطوات الرمزية الأخرى في الشأن الإسلامي مثل طباعة المصحف وفتح قناة وإذاعة للقرآن الكريم.
لكن ولد عبدالعزيز دخل في معارك كثيرة أفقدته الكثير؛ حيث دخل في صدام مع ولي نعمته الرئيس الراحل ولد محمد فال، والتي وصلت حد تهديده بالاعتقال أكثر من مرة، كما تحولت صداقة ولد عبد العزيز مع ابن عمه رجل الأعمال الشهير محمد ولد بوعماتو إلى عداء مطلق انتهى بتهجير الأخير لأكثر من 9 سنوات خارج البلاد، قائدا لحرب إعلامية وسياسية موجعة ضد صديقه السابق. كما فقدَ ولد عبد العزيز بسرعة أيضا ودّ زعيم المعارضة السابق أحمد ولد داداه الذي ساند انقلاب ولد عبد العزيز قبل أن تتحول العلاقة بينهما إلى لهب وصراع مستمر. وخاض صداما مؤلما مع الإسلاميين انتهى بإغلاق أغلب الجمعيات المحسوبة عليهم، والاعتداء على الزعيم الروحي العلامة الشيخ محمد الحسن بن الددو الذي أغلق ولد عبد العزيز مؤسساته العلمية، وخصوصا مركز تكوين العلماء وجامعة عبد الله بن ياسين.
غير أن تلك الإنجازات والشعارات والألقاب سرعان ما انهارت تحت لهب الفساد المنبعث من محيط الرئيس، وتحول من رئيس الفقراء إلى "رئيس التجويع" وفق اتهامات المعارضة، أما رئيس العمل الإسلامي فقد انتهى به الأمر إلى إغلاق الجمعيات الخيرية، والتحالف مع أبرز الخصوم الدوليين للتيار الإسلامي.
تزخر حياة ولد عبدالعزيز بالمتناقضات، بل لم تكن مسيرته أكثر من سير وتناوب بين متناقضات يصعب أن تجتمع، فقائد الحرب على الفساد متهم بممارسة أبشع أنواع الفساد والإثراء على حساب الشعب، ورئيس الفقراء يغادر وقد زادت نسبة الفقر والبطالة، وعانى المواطنون من شح الموارد وغلاء الأسعار، وزعيم العمل الإسلامي نكل بالعديد من الجمعيات الخيرية واتهم بمحاصرة العمل الإسلامي والتضييق على مؤسساته.
فساد بلغ التراقي
ويُتهم ولد عبد العزيز بانتهاج سياسة فساد هائلة، حولته وعددا من أفراد أسرته إلى أثرى أثرياء موريتانيا، وخلال الشهور المنصرمة، عرضت الصحافة الموريتانية صورا لعشرات الشاحنات الضخمة والسيارات الفارهة التي قيل إن الرئيس السابق وأفرادا من عائلته كانوا يحتفظون بها في مخازن خاصة، كما بدأت السلطات القضائية تجميد أصول وأرصدة هائلة باسم أفراد أسرته ومقربيه في بنوك محلية.
ورغم أن ولد عبد العزيز خاض حربا مريرة ضد خصومه السياسيين تحت لواء الحرب على الفساد، وسجن عددا من رجال الأعمال والسياسيين وهجر مجموعات متعددة من رجال الأعمال، فإنه الآن يواجه السجن تحت نفس اللواء، وتبدو الشواهد على فساده ماثلة ومتحركة، ويظهر تقرير للجنة تحقيق برلمانية شكلت في يناير2021 وتتبعت عددا من أبرز ملفات الفساد خلال عهد الرئيس ولد عبد العزيز.
ومن بين ملفات التحقيق، كيفية إدارة عائدات البلاد النفطية وبيع ممتلكات عامة في نواكشوط وتصفية مؤسسة عامة كانت تؤمن إمدادات البلاد من المواد الغذائية، ونشاطات شركة صيد بحري صينية.
وخلص التقرير البرلماني إلى أن الرئيس وأفرادا من أسرته استحوذوا على العديد من أملاك وثروات الدولة، واستغلوا نفوذهم في تمرير صفقات أضرت باقتصاد موريتانيا، واتهمهم بالاستيلاء على عقارات باهظة الأثمان في نواكشوط، من بينها مدارس عمومية ومقار عسكرية وأمنية بعد أن تخلت عنها الدولة في عمليات بيع بالمزاد العلني شابتها الكثير من الخروقات وحامت حولها العديد من الشبهات.
ناقش البرلمان تقرير اللجنة وأحاله إلى القضاء، ليبدأ التحقيق مع ولد عبد العزيز وأفراد من أسرته والعديد من الوزراء والمسؤولين الذين عملوا معه، وسط ترحيب كبير من الشارع وتنديد من بعض مقربي الرئيس الذين تحدثوا عن تسييس للملف واستهداف واضح لمن يصفونه بباني نهضة موريتانيا الحديثة!