كيف تسبب عبدالناصر وانقلاب 23 يوليو في انفصال السودان؟

- ‎فيتقارير

في العصر الملكي كانت خريطة مصر تضم (مصر ــ السودان ــ سيناء ــ غزة ـ أم الرشراش "إيلات حاليا" ــ تيران  وصنافير)، لكنها تقزمت في أعقاب انقلاب 23 يوليو 1952م، وكانت البداية في تجاهل تحرير  منطقة "أم الرشراش" التي احتلتها عصابات الصهاينة سنة 1949م، وعندما نجح الانقلاب العسكري في الإطاحة بالنظام الملكي لم يتحرك الضباط لتحرير أم الرشراش وتجاهلوها تماما حتى تحولت إلى ميناء "إيلات" الإسرائيلي حاليا والذي يمثل أهمية إستراتيجية كبرى للاحتلال باعتباره المنفذ البحري الوحيد له على البحر الأحمر. ويتسبب ذلك في تهديد واسع للأمن القومي المصري حيث تبحث حكومة الاحتلال شق قناة مائية موازية لقناة السويس تبدأ من "أم الرشراش"  المصرية المحتلة إلى البحر المتوسط لاستقطاب حاملات النفط وسفن الشحن العملاقة بدلا من قناة السويس.

ظلّت الحكومات المصرية المتعاقبة طوال الحكم الملكي تعتبر السودان جزءا لا يتجزأ من مصر، وأن المحاولات البريطانية التي كانت تهدف إلى إرغام هذه الحكومات للقبول بمبدأ استفتاء السودانيين لتقرير مصيرهم كانت مرفوضة من جانب النخبة السياسية المصرية، يقول أحد أهم رجالات الوفد ووزير الداخلية في الأربعينيات فؤاد سراج الدين: "إن فكرة استفتاء السودانيين كانت مستبعدة تماما، ومرفوضة لأنه لا يمكن إقرار استفتاء أسيوط مثلا". هكذا كانت السودان في نظر المصريين قطرا أصيلا، وجزءا لا يتجزأ من التراب الوطني، لكن انقلاب يوليو 1952م حرّك المياه الراكدة، وغيّر موازين القوى.

 

انفصال السودان

 نجح محمد نجيب في توحيد السودانيين تحت لافتة الحزب الوطني الاتحادي، وجعلهم يتحمسون للوحدة مع مصر تزامنا مع بداية الفترة الانتقالية المقدرة بثلاث سنوات (1953- 1956)، وهي الفترة التي شهدت فيها مصر صراعا على الحكم بين نجيب وعبد الناصر.

في هذه الأثناء أسند ملف السودان للضابط صلاح سالم بهدف تعزيز الوحدة في نهاية الفترة الانتقالية المقررة بنهاية سنة 1955م، والغريب أن هذا الملف الحسّاس والمصيري قد أُعطي لصلاح سالم بناء على أمرين:

الأول: أن صلاح سالم قد وُلد في السودان حين كان والده يعمل هنالك ضمن قوات الجيش المصري المرابط على البحر الأحمر، ظنا من أعضاء مجلس قيادة الثورة أن صلاح سالم مؤهل بسبب هذه النشأة والميلاد لحمل هذا الملف الحساس والمصيري بين البلدين.

والسبب الثاني الذي يمثل مثار الاستغراب، هو ما يذكره اللواء جمال حماد كاتب بيان انقلاب يوليو الذي تلاه أنور السادات في شهادته على العصر مع أحمد منصور حين سأله: "هل كان صلاح سالم مؤهلا لحمل ملف السودان؟" ليرد: "صلاح سالم تولى ملف السودان بطريق المصادفة، فقد كان صلاح سالم ضمن سكرتارية الرئيس محمد نجيب، فاتصل به المقدم حسين ذو الفقار صبري المتولي رئاسة القوات المصرية في السودان بشأن مشكلة عساكر الحدود العائدين إلى السودان والمطالبين بحقوقهم المالية، فأرسلها بدوره صلاح سالم إلى أعضاء مجلس قيادة الثورة، ومن هنا كلما جاءت مشكلة من السودان فوّضه أعضاء مجلس قيادة الثورة لحلها". ليقاطعه المذيع: "دون أي خبرة أو معرفة أو أي شيء؟!" فيجيبه اللواء حماد: "ولا أي حاجة أبدا، هو اتولد هناك صحيح، لكن لا علاقة له بالسودان ولا يعرف شيء عن السودان خالص، وبعدين هو بالذات رجل غير دبلوماسي، يعني رجل عصبي رغم مزاياه الكثيرة مثل الذكاء والفهم، لكنه شديد الانفعال".

 

ألاعيب الإنجليز

كانت بريطانيا بدورها طوال الفترة الانتقالية تعمل على تقزيم وتقسيم السودان بين شماله وجنوبه، كما عملت على التفرقة وبث الشحناء بين مصر والسودان طوال سنوات الاحتلال، وكان هذا الأمر تحديا لصلاح سالم الذي قرر السفر إلى جنوب السودان، كما تقرب من الأميركان الذين كان من مصلحتهم طرد الإنجليز من مصر والسودان ليحلوا محلهم في الهيمنة على الشرق الأوسط. يقول اليوزباشي محمد أبو نار مساعد صلاح سالم لشؤون السودان إن الأميركان "ساعدوا صلاح سالم في دخول جنوب السودان عن طريق اتصالات مستر كافري السفير الأميركي في القاهرة، ومستر سويني ضابط اتصال السفارة".

وطبقا لمعاهدة التفاهم البريطانية المصرية بشأن السودان، فقد أُجريت الانتخابات في 25 نوفمبر 1953م وتحقّق ما كان يأمله الوطنيون في مصر والسودان على السواء، فقد سقط حزب الأمة أكبر الأحزاب التي عارضت قضية الوحدة بين البلدين، وفاز الحزب الوطني الاتحادي الذي خاض الانتخابات حول مبدأ الاتحاد مع مصر بنتيجة كبيرة، وكانت هذه النتيجة الكبيرة دليلا دامغا على رسوخ قضية "وحدة وادي النيل" لدى السودانيين قبل المصريين.

ارتقى إسماعيل الأزهري عاشق مصر والوحدة ليكون رئيس الوزراء الأول للسودان بعد الاستقلال في يناير 1954م، وزار بريطانيا في السنة نفسها التي استقبلته كما الملوك بهدف التأثير عليه للابتعاد عن الوحدة مع مصر، ليعود الأزهري من زيارته تلك متجها إلى القاهرة التي تكلم فيها مع عبد الناصر وصلاح سالم وغيرهم عن أسس الوحدة المنشودة، وآلياتها. في هذه اللحظة، تتفق كثير من المصادر على أن صلاح سالم كان يستهين بالأزهري "ولم يحاول أن يتفاهم معه بصراحة، أو أن يتفق معه على الحد الأدنى من أسس الاتحاد"؛ وكان الأزهري إزاء هذا الخداع والاستهانة يتجه ناحية المطالبين بالاستقلال وعدم الوحدة مع مصر رويدا رويدا.

 

جهل أم خيانة؟!

طوال عام 1954م كانت الضربات تتوالى من القاهرة على الخرطوم من "الضباط الأحرار"، رأى السودانيون ما جرى من المعاملة المهينة للنحّاس باشا زعيم الوفد الذي اعتبره الكثيرون منهم رمزا وطنيا وقف على الدوام ضد التآمر البريطاني الذي عمل على فصل السودان عن مصر، كما رأى الإخوان المسلمون في السودان ما جرى لإخوانهم في مصر من التعليق على المشانق، والتعذيب المروّع في السجون المصرية، بل رأى الشيوعيون السودانيون رفاقهم الروّاد يلعقون بلاط السجون، بينما على الجانب الآخر يتودد لهم النظام المصري، ولم يكن من العسير أن يستنتجوا ماذا سيحلّ بهم إذا ما امتدّ نظام الحكم الناصري إلى هناك.

على أن الطامة الكبرى التي نزلت بالسودانيين كانت الغدر بمحمد نجيب الرئيس الأول لجمهورية مصر، والمدافع الأكبر عن الوحدة مع السودان، والحق أن نجيب روى بمرارة وحسرة ما تعرّض له من غدر في مذكراته الشهيرة "كنت رئيسا لمصر"، والسياسة الفاشلة التي اتخذها عبد الناصر ومجلس قيادة الثورة في تعاملهم مع السودان والسودانيين، وكان أولها إزاحته عن حكم مصر، وقد اعتبر السودانيون على الدوام محمد نجيب الرجل الذي كان نصفه مصريا ونصفه سودانيا هو الضامن الحقيقي لمسألة الوحدة.

حين حاول جمال عبد الناصر فيما بعد إعادة العلاقات وكانت قد تدهورت بسبب عزل نجيب وبسبب السياسة الفاشلة التي اتبعها صلاح سالم مع السودانيين بالسب والرشوة والاحتقار، فقد سأل عبد الناصر السودانيين عن سبب التعنت وكأنه لم يكن يعرف، فأجابوه: "نجيب! ولما قال لهم جمال عبد الناصر: إن نجيب فرد، والفرد زائل، والعلاقة المتينة بين البلدين خالدة، كرروا: نجيب، وفقد عبد الناصر أعصابه وقال: ليس معقولا أن نضع فردا في كفّة وعلاقة بين شعبين في كفة أخرى. قالوا له: إننا جعلنا من نجيب رمزا لوحدة الوادي شماله وجنوبه وأنتم حطمتم هذا الرمز".

يقول نجيب في مذاكراته" «تحمّلت كل ما جرى لي بعد تمكّن عبد الناصر من السلطة بعد أزمة مارس 54 حتى لا تؤثّر استقالتي على نتيجة الاستفتاء حول الوحدة مع مصر في السودان، خاصة أن الحزب الوطني الاتحادي الذي كان يؤيد الاتحاد والوحدة مع مصر قد فاز في الانتخابات، لكن عبد الناصر ورجاله في مجلس الثورة لم يكن يشغلهم في ذلك الوقت موضوع السودان، كان كل ما يهمهم هو كيف يمكن إزاحتي والتخلّص مني».

وفي أعقاب الانقلاب على نجيب وعزله والتعامل معه بطريقة مهينة ووضعه رهن الإقامة الجبرية، خرجت الصحافة السودانية لتحذر من الوحدة مع عسكر مصر ، وراحت تصف كلا من صلاح سالم ومجلس قيادة الثورة بأنهم "فاشيون"، بل قالوا: "نفرض أن وحدة تمّت بشكل ما بين وادي النيل، فما الضمانات التي تكون لدى زعمائنا وأي فرص لهم مع هؤلاء المتنمرين المتعطشين للسلطة؟".

ولما فشل العسكر في الوحدة مع السودان راحوا يبحثون عن الوحدة مع سوريا الأبعد جغرافيا  لكنهم فشلوا أيضا في هذه التجربة المريرة، ويعود السبب في ذلك إلى أن السوريين مثل السودانيين تماما ذاقوا الفتن والدسائس والألاعيب والتآمر فقرروا  إنهاء هذه الوحدة التي لا معنى لها ولا فائدة ترجى منها.