د. سليمان صالح يكتب: القاضي الفاضل الذي حرر صلاح الدين الأيوبي القدس بقلمه!

- ‎فيمقالات

عندما فتح صلاح الدين الأيوبي القدس، وحرر فلسطين من الاحتلال الصليبي قال لجيشه: لا تظنوا أني فتحت القدس بسيوفكم.. ولكنني فتحتها بقلم القاضي الفاضل!

وعبارة صلاح الدين تلك لا تعني التقليل من أهمية القوة الصلبة التي تتمثل في الجيوش والأسلحة، لكنها تشير إلى إدراك صلاح الدين لأهمية نوع آخر من القوة هي قوة الثقافة والفكر والأدب والتخطيط.. إنها القوة الناعمة التي استخدمها صلاح الدين في توحيد الأمة وتعبئتها، وإعداد الجيش والقيام بعملية تغيير في حياة الناس جعلتهم يدركون أن معني حياتهم وهدفهم الأول هو تحرير القدس.

إن القوة الناعمة التي استخدمها صلاح الدين الأيوبي – والتي كانت أهم وسائلها قلم القاضي الفاضل- هي التي نجحت في إعداد الجيش، وملأت قلوب الجند بالثقة والقوة والجرأة والشجاعة.. كما أنها جعلت الجنود يلتزمون بالمبادئ والأخلاق فيشكلون صورة ايجابية لأمة عظيمة هدفها التحرير وليس سفك الدماء.. وكانت تلك الصورة الإيجابية من أهم العوامل التي شكلت الهزيمة النفسية والثقافية للصليبيين.

لقد تمكن صلاح الدين من أن يهزم الصليبيين حضارياً وثقافياً، وتلك الهزيمة دفعتهم للقيام بعملية تغيير ثقافي في أوروبا بعد عودتهم.. وأدت إلى نهضة أوروبا الحديثة.

كانت تلك الهزيمة هي التي وجهت الصليبيين إلى أهمية تغيير أسلوب حياتهم، وإعلاء قيمة الإنسان، وتحرير أوروبا من استبداد الملوك والإقطاع والكهان.

القيادة القائمة على المعرفة

عبارة صلاح الدين تدفعنا أيضاً إلى البحث في تطوير نظريات القيادة.. فصلاح الدين لم يكن فقط قائداً عسكرياً عظيماً، لكنه كان قائداً يدرك أهمية المعرفة والثقافة والخطاب والقلم.. لذلك كان يختار العلماء والمفكرين والمثقفين ويقربهم ويعلي شأنهم ويعتمد عليهم في عملية التغيير، وإعداد الأمة لتحقيق هدفها العظيم.

كان هؤلاء العلماء والخطباء والكتاب هم جيشه الذي أدار به معركة التغيير والإعداد وتوحيد الأمة.. وكلماتهم أضاءت للأمة طريق التحرير، وحددت الهدف للجنود حتى إذا ما ارتفعت السيوف انهارت قوة الصليبيين خوفاً من قوة رجال يؤمنون بمبادئهم، جاءوا لينصروا الحق، وليرفعوا راية العدل.

وإذا كانت عبارة صلاح الدين توضح إدراكه لأهمية القوة الناعمة، فإنها أيضاً توضح أهمية القيادة القائمة على المعرفة.

ولقد تمكن صلاح الدين الأيوبي من إدارة الموارد المعرفية والثقافية، وشكل بها قوته التي مكنته من أن يحتل مكانة مهمة في التاريخ كقائد للتحرير.

ومن ذلك يمكن أن نستنتج قاعدة مهمة لبناء المستقبل، هي أن الأمة التي تتمكن من توظيف ما تملكه من معرفة وثقافة ومبادئ وقيم هي التي يمكن أن تحقق النصر مهما بلغت قوة العدو الصلبة، وهي التي يمكن أن تؤثر على الجماهير فتحقق أهدافها.

إن بناء القوة يعتمد على جهد العلماء والمفكرين الذين يقودون الأمة للتغيير وتطوير الأهداف وبناء المستقبل.. ولقد أدرك صلاح الدين الأيوبي هذه الحقيقة فتمكن من توظيف الآلاف من العلماء ليحقق بهم وحدة الأمة قبل أن يتقدم لإدارة المعركة باستخدام قوته الصلبة.

قيادة العلماء

ومن الواضح أن صلاح الدين كان خبيراً في اختيار وزرائه ومساعديه، فأدرك أن القاضي الفاضل يمكن أن يقود العلماء فهم يعترفون بمكانته وعلمه وقدراته على إنتاج المعرفة، ويثقون في اخلاصه.

لذلك اعتمد صلاح الدين علي القاضي الفاضل في توظيف قوة العلم والمعرفة، فأصبح الرجل الثاني في الدولة لأنه يقود العلماء والمفكرين والدعاة والخطباء.

لفت نظري وأنا أدرس سيرة القاضي الفاضل أنه تمكن من أن يجمع في مكتبته مائة ألف كتاب.. وتلك ثروة فكرية وعلمية أنتجتها الأمة الإسلامية طوال قرون.

هذا يعني أن الرجل كان أميناً علي ثروة الأمة الفكرية والعلمية، وأنه استحق مكانته في دولة صلاح الدين كقائد للعلماء والمفكرين بما بذله من جهد في استيعاب ما أنتجته الأمة من علم ومعرفة، فهنا كانت تكمن القوة.

وبقراءته لتلك الكتب أصبح القاضي الفاضل شيخ البلاغة، وسيد فصحاء عصره، فهو الذي يستطيع أن يستخدم الكلمة للتأثير على الناس، وبقوة بيانه وحجته ووضوح منطقه وحكمته تمكن صلاح الدين من إدارة معركة الوعي.

ولقد جمع صلاح الدين العلماء والخطباء الذين حملوا الرسائل المؤثرة التي قام القاضي الفاضل بصياغتها للناس، وهذا يعني أن صلاح الدين استخدم الخطباء والعلماء كقادة للرأي ينقلون الرسائل ويشرحونها للناس، ويشكلون الرأي العام، ويوحدون الأمة حول مبادئ الإسلام، والهدف العظيم وهو تحرير القدس.

هذا يوضح لنا كيف يمكن أن نبني القيادة القائمة على المعرفة، فالعلماء يقودهم عالم يدركون أنه يتميز بالعلم والإخلاص والإيمان.

كلمات القاضي الفاضل كانت تتدفق من قلب يؤمن بما يكتب القلم الذي يعبر عن المعاني.. وكانت الأمة في تلك المرحلة تحتاج إلى معني جديد لحياتها، ولاستعادة الوعي بهويتها ووظيفتها الحضارية.

لذلك كانت الأمة تحتاج إلي القاضي الفاضل العالم المفكر الكاتب، كما كانت تحتاج إلي صلاح الدين القائد الذي يدرك أهمية العلم والمعرفة في بناء دولته وتحقيق هدفه.

لذلك تميزت تلك الفترة من التاريخ بقيادة صلاح الدين والقاضي الفاضل.. وألهمت القيادة أفراد الأمة، فانطلقوا يفكرون ويبدعون ويتعلمون ويحلمون بالنصر.

لقد قاد القاضي الفاضل العلماء لتحرير العقول والقلوب من الخوف والخضوع والعجز والوهن، وكانت تلك هي معركة صلاح الدين الأولي التي مهدت للمعركة الفاصلة الحاسمة.

قوة الكلمات

ومن شيخ البلاغة القاضي الفاضل استمد الخطباء قوة الكلمات التي أثرت في النفوس، وأضاءت القلوب، فوجد الناس معني حياتهم في العمل لتحقيق هدف الأمة وهو تحقيق النصر وتحرير القدس.

ولقد تحرك مجتمع المعرفة ليعد جيشه من المفكرين والعلماء الذين حملوا سيوفهم ومضو تحت قيادة صلاح الدين ليخوضوا معركة بعلمهم وفكرهم ومبادئهم قبل سيوفهم وهذه أهم شروط الجيوش التي تحقق النصر في الصراعات الكبرى.

لذلك لم يعترض أحد من جيش صلاح الدين علي مقولته.. ولم يقل أحد: إنما حررناها بسيوفنا، ولكنهم وافقوا واتفقوا على صحة عبارته.. فهم يدركون أهمية قلم القاضي الفاضل في المعركة، وأن كلماته التي صاغها، ونقلها الخطباء إلى الناس هي التي جعلت الأمة تقف وراءهم وتساندهم وهم يحاربون معركتهم.

لقد بنت كلمات القاضي الفاضل إجماع الجبهة الداخلية، وشكلت الرأي العام الإسلامي الذي كان أقوي الأسلحة في معركة التحرير.

ديوان الإنشاء

ولقد قام ديوان الإنشاء الذي قاده القاضي الفاضل بدور وزارات الإعلام والثقافة والتربية والتعليم والأوقاف في عصرنا.. فقد قدر بعض المؤرخين حجم الرسائل التي كتبها القاضي الفاضل بمائة مجلد.

هذه الرسائل حملها الخطباء (قادة الرأي) إلي الناس في كل مكان، فأجمعت الأمة علي الاعتراف بشرعية قيادة صلاح الدين والتفت حوله، ووضعت كل مواردها وطاقاتها وقدراتها المادية والمعنوية تحت إدارته، فوظفها لتحقيق النصر.

والقاضي الفاضل لم يكن مجرد كاتب يؤثر في الناس بكلماته، أو عالم يمتلك المعرفة ويجيد توظيفها.. لكنه كان مع كل ذلك حكيماً وجد صلاح الدين البركة والصواب والسداد في رأيه.. والأمة تحتاج إلى تطوير مفهوم القيادة القائمة على الحكمة، فهناك الكثير ممن يمتلكون المعرفة والعلم لكنهم لا يمتلكون الحكمة وسداد الرأي.

والإنسان يحتاج إلى الحكمة وهي نعمة من الله وضعها في آراء القاضي الفاضل، ووجد فيها صلاح الدين مصدر قوة، فالقائد يحتاج إلى الكلمة الحكيمة كما يحتاج إلى الكلمة المؤثرة.

ولقد تمكن القاضي الفاضل من إقامة مجتمع الحكمة الذي يدرك معني الحياة، ويتم فيه اتخاذ القرارات على أساس المبادئ بعد استقراء التجارب التاريخية.

لذلك اجتمعت قوة كلمات القاضي الفاضل وتأثيرها مع بركة رأيه وحكمته وصدقه وإخلاصه لدينه ومبادئه.. فلم يكن القاضي الفاضل يهتم بأن يجمع لنفسه ثروة.. بل كان يتصدق بكل ما يملك، ولا يأكل سوي اليسير من الطعام ولا يهتم بزينة الدنيا وزخرفها، وكان يكثر من الصيام والصلاة في الليل وقراءة القرآن.. وكان يحرص على أن يجمع في مجلسه العلماء والفقهاء والأدباء والشعراء ويستمع لهم بالرغم من أنهم يجمعون على أنه الأكثر علماً وفقها وحكمة وقدرة على التعبير.

لذلك تتجلي حكمة صلاح الدين وتميزه كقائد في اختيار القاضي الفاضل ليكون وزيره ومستشاره الأول.. فمن يصاحب القاضي الفاضل يزداد علمه وفضله.

وهذا يوضح لنا أن من أهم الأسس التي تقوم عليها القيادة الأصيلة القدرة علي اختيار الرجال وتوظيفهم لتحقيق الأهداف والاستفادة من تخصصاتهم.

ولقد أدرك صلاح الدين أن القاضي الفاضل يتميز بالعلم والكفاءة في إدارة المعرفة والإخلاص والحكمة، كما أدرك أهمية الكلمة ودورها في توحيد الأمة.. ولم يكن صلاح الدين يريد فقط الكلمة البليغة المؤثرة، ولكنه أيضاً يريد الكلمة التي تخرج من قلب مخلص، وتعبر عن رأي سديد حكيم، وتضيئ للأمة طريق الحق بقوة.

وهكذا استمد قلم القاضي الفاضل قوته من إيمان وصدق وإخلاص وحكمة، والقلب الذي يضيئه نور الإيمان هو الذي يعبر عن قوة الحق، فتتدفق الكلمات علي القلم واللسان.

يقول القاضي الفاضل:

فما ترجم الإنسان عن سر فضله.. بأفضل من تقريبه لأولي الفضل.

ولقد ترجم صلاح الدين الأيوبي عن سر فضله بتقريبه للعلماء، وقائدهم القاضي الفاضل.