سلامٌ على «الرواحل» الأُمناء

- ‎فيمقالات

الرواحل: جمع «راحلة»، وهى النادر النجيب من الإبل، المتميزات الواطئات القاطرات. والناس كذلك يندر فيهم الرواحل الأفذاذ، أهل العزيمة والهمّة والمضاء، يقول النبى ﷺ: «إنما الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة».. لكن من فضل الله على الناس لا يخلو من هؤلاء زمانٌ ولا مكانٌ، وقد رأيناهم رأى العين، وتعلمنا الكثير على أيديهم؛ أولئك المصلحون، الأتقياء الأخفياء، الصادقون المتجردون الزهَّاد، الثابتون الصامدون الصابرون، الحافظون لحدود الله.

اتصلتُ بأحدهم، وكان خارجًا للتو من السجن إثر تنفيذ حكم مشدد فى قضية ملفقة، وهو العالم العادل الورع ذو الحرفة والمنصب، وقد ظننتُ أن التعذيب والتغريب والانفرادى قد قضت على ما تبقى منه وهو الرجل الستينى المريض؛ فوالله ما وجدت فى صوته إلا عزة وشموخًا وأملًا ورسوخًا، واستهانة بالظالمين، محتسبًا ما وقع عليه ضريبة الإصلاح وعربون الجنة، فتذكرت قول القائل: (فإن تكن الأيام فينا تبدَّلت… ببؤس ونعمى والحوادث تفعل، فما لينت لنا قناة صليبة… ولا ذللتنا للتى ليس تجمل).

وبمثل هؤلاء تنتصر الدعوات، وتنصلح الأحوال، ويظل أهل الحق شوكة في حلوق الظالمين، ومصدر إيلام وغيظ المجرمين، وهم المقصودون فى الآية: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب:23]، المذكورون فى حديث النبى ﷺ: « لا تزال طائفة من أمتى يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة»، وهم من عناهم «عمر»، رضى الله عنه، فى الرواية المشهورة؛ إذ ورد أنه (قال يومًا لأصحابه: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أن لى هذه الدار مملوءة ذهبًا أنفقه فى سبيل الله. ثم قال: تمنوا، فقال رجل: أتمنى لو أنها مملوءة لؤلؤًا وزبرجدًا وجوهرًا أنفقه في سبيل الله وأتصدق. ثم قال: تمنوا، فقالوا: ما ندرى يا أمير المؤمنين. فقال عمر: أتمنى لو أن هذه الدار مملوءة رجالًا مثل أبى عبيدة بن الجراح). فالغنى الحقيقى للأمة يكون بتكثير سواد هؤلاء الصادقين، سلسلة أنصار الرسل والنبيين؛ (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) [آل عمران: 146].

ولقد أكرمنا الله بصحبة والعمل مع بعض هؤلاء الأكارم، على اختلاف الأجيال، فوجدناهم كبارًا فى عقولهم ومطامحهم، لا يعيشون لأنفسهم، ولا يركنون إلى الدنيا، ولا يتلونون، ولا يساومون، ولا يخشون فى الله لومة لائم؛ من ثَمَّ لا يعرفون الراحة، وحين يموتون يموتون واقفين. صاحبت أحدهم وكان فى واجهة الدعوة طاعنًا يعيش بِكُلْيَةٍ واحدة، لم يتوقف عن العمل والحركة فى ليل أو نهار، ولم أعلم بأمر الْكُلْيَةِ المستأصلة منذ زمن وإنهاك الأخرى إلا قبيل وفاته، لم أسمعه يومًا يشكو أو يتذمر، ولم يقعده المرض، وكان بإمكانه الأخذ بالعذر والرخصة، لكنه كان يأخذ بالعزم والهمّة، رحمه الله.

وهذه ميزة الإسلام وفضيلة أتباعه، فرسان الدعوة، تلامذة «أبى بكر» الذى قال قولته الخالدة: «أينقص الدين وأنا حى؟» حتى صارت شعارًا للنابغين ممن أتوا بعده، وهذا ما ربّاهم عليه زعيمُ الأمة محمد ﷺ حتى تخرّج فى مدرسته فى غضون سنوات من يستهين بالحياة لأجل نصرة الدين ورفعة شريعته؛ لما أُسر (عبد الله بن حذافة السهمى، رضى الله عنه، جوَّعوه أيامًا، ثم أحضروا له طعامًا فيه لحم خنزير، وخمرًا بدل الماء، فأبى أن يأكل حتى أشرف على الموت، فأحضروه وسألوه فقال: والله لقد كان لى فى أكلها رخصة ولكنى أردتُ ألا أشمتكم فى الإسلام)، وكذلك فعل «بلال»؛ (لما سُئل رضى الله عنه: لماذا كنتَ تقول أحدٌ أحدٌ؟ قال: والله لو علمت كلمة أغيظ لهم منها لقلتها).

إن آثار هؤلاء الكبار تدل عليهم، وقد أعطوا للشباب المثل والأسوة فى الصبر والرباط، وهى أمثلة عملية واقعية، ولولاهم لانتقض الكثيرُ من عُرى الدين، فهم صمّام الأمان، والحجر الذى لا يلين، والنصل الذى لا ينكسر، والمرجعية والخبرة، وبهم تتحقق معانى: الأُخوة والنصرة والبر والتقوى، وبهم تنفتح الطرق أمام الداعمين لدين الله فيكثر سوادهم.. بارك الله فى الأحياء منهم، ورحم الأموات.