بعد مواقفها الضبابية.. أمريكا تبارك الانقلاب في تونس

- ‎فيعربي ودولي

يوم الثلاثاء الماضي 12 أكتوبر 2021م هنأت الولايات المتحدة الأمريكية على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية نيد برايس تونس على تشكيل حكومة جديدة، معبرة عن تطلعها "لإرساء مسار يشمل الجميع من أجل عودة سريعة إلى النظام الدستوري". والاثنين الماضي، تم الإعلان عن تشكيلة الحكومة التونسية الجديدة، التي ضمت 24 حقيبة وزارية، برئاسة نجلاء بودن.

واشنطن اعتبرت الإعلان عن تشكيل الحكومة الجديدة برئاسة امرأة خطوة على الطريق الصحيح، بما يعني أنها تقبل بما جرى وطي صفحة الانقلاب الذي اجهض المسار الديمقراطي ووضع كل السلطات التنفيذية والتشريعية وحتى القضائية في يد دكتاتور تونس قيس سعيد بعد قراراته في 25 يوليو 2021م.

لا يمكن فهم التهنئة الأمريكية بحكومة تونس  الجديدة إلا على هذا النحو، رغم إدراك واشنطن أن الحكومة الجديدة لا تتمتع بأي صلاحيات أو حتى شرعية لغياب البرلمان الذي يتعين عليه منح الحكومة الثقة، وبالتالي فإن الترحيب الأمريكي هو في جوهره مباركة أمريكية لانقلاب تونس وضوء أخضر للمستبد قيس سعيد بفعل ما يشاء دون اكتراث بالعواقب.

الترحيب الأمريكي بالحكومة الجديدة أغرى سعيد نحو مزيد من الهيمنة والاستبداد فقرر  إقالة رئيس وأعضاء ديوان رئيس البرلمان راشد الغنوشي، في خطوة جاءت على شكل أوامر رئاسية، للتأكيد على سيطرته المطلقة على السلطة، وصدرت، الخميس 14 أكتوبر 2021 في الجريدة الرسمية، خمسة أوامر رئاسية، تعلقت بإقالة أحمد المشرقي رئيس ديوان رئيس البرلمان راشد الغنوشي، بالإضافة إلى إقالة وسيم الخضراوي، وأسماء الجمازي، ومحمد الغرياني، وجمال الطاهر العلوي من مهامهم كمكلفين بمهمة بديوان رئيس البرلمان.

وفي 25 يوليو 2021م أعلن الرئيس التونسي فرض إجراءات استثنائية تضمنت إقالة رئيس الحكومة وتجميد البرلمان ومنح نفسه صلاحيات النائب العام، وتجميع كل السلطات في يده. ففي الثاني والعشرين من سبتمبر الماضي 2021، أعلنت الرئاسة التونسية أن الرئيس قيس سعيد أصدر أمرا رئاسيا يتعلق بالتدابير الاستثنائية، تضمن" مواصلة تعليق جميع اختصاصات مجلس نواب الشعب، ومواصلة رفع الحصانة البرلمانية عن جميع أعضائه".  هذا الأمر الرئاسي الذي حمل الرقم 117، تضمن أيضا "وضع حد للمنح والامتيازات كافة، المسندة لرئيس البرلمان وأعضائه"، إلى جانب تدابير أخرى خاصة بممارسة السلطة التشريعية، والسلطة التنفيذية، و"مواصلة العمل بتوطئة الدستور وبالبابين الأول والثاني منه، وبجميع الأحكام الدستورية التي لا تتعارض مع هذه التدابير الاستثنائية"، في إمعان في انقلابه على الدستور وديمقراطية البلاد واحتكاره للسلطة. وبالتالي  الرئيس منح نفسه الصلاحيات المطلقة، فيما تقف القوى والحركات والأحزاب التونسية عاجزة عن مواجهة دكتاتورية سعيد المتصاعدة والمدعومة من الجيش والشرطة من جهة وتحالف الثورات المضادة من جهة أخرى والذي تقوده إسرائيل والإمارات والسعودية ومصر.

وكان قيس سعيد كلف في 29 سبتمبر الماضي، "نجلاء بودن" بتشكيل الحكومة، وهي أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ تونس. وقرر "سعيد"، في 25 يوليو الماضي، إعفاء رئيس الحكومة "هشام المشيشي"، وتجميد عمل واختصاصات المجلس النيابي، ورفع الحصانة البرلمانية عن كلّ أعضاء البرلمان إلى جانب تولي رئيس الجمهورية السلطة التنفيذية ورئاسة النيابة العامة.

 

نفوذ أمريكا في تونس

وتتمتع أمريكا بنفوذ متشعب في الدولة العربية، أولها على المستوى الاقتصادي حيث المساعدات والمنح المقدمة من واشنطن للنظام التونسي التي تشكل العصب الأساسي لتجاوز المرحلة الحرجة التي تحياها البلاد خلال السنوات الأخيرة، ويذكر أن الولايات المتحددة خصصت أكثر من 1.4 مليار دولار لدعم التحول في تونس منذ 2011 وحتى اليوم، ولعل الاتفاقية الموقعة العام الماضي التي قدمت أمريكا من خلالها منحة قدرها 500 مليون دولار آخر حلقات هذا الدعم.

أما على المستوى السياسي فتتمتع العلاقات بين البلدين بفترة رخاء غير مسبوقة، ففي 2015 صنفت واشنطن تونس على أنها حليفة رئيسة للولايات المتحدة من خارج حلف "الناتو"، وهو الباب الأكثر اتساعًا لتعزيز مجالات التعاون بين البلدين لتشمل كل المجالات وعلى رأسها العسكرية.

عسكريًا.. وقعت أمريكا وتونس في أكتوبر2020 اتفاقًا للتعاون العسكري بين البلدين، الاتفاق مدته 10 سنوات، ويشمل تدريب القوات التونسية وتسليح الجيش وخدمات صيانة الأسلحة، فضلًا عن التعاون في مجال مكافحة الإرهاب وإجراء المناورات المشتركة.

وعليه فإن استخدام تلك الأوراق الإستراتيجية – بحسب الفريق المطالب بايدن باتخاذ موقف حاسم – يمكن أن يكون عامل ضغط قوي على الرئيس التونسي الذي يعي جيدًا صعوبة المشهد الداخلي وعدم قدرته على تحمل أعباء أو هزات جديدة لا سيما على المستوى الاقتصادي.

ومن ثم تتصاعد المطالب باستخدام الثقل متعدد الجوانب الذي تتمتع به الولايات المتحدة من خلال توظيف ورقة المساعدات (الاقتصادية والعسكرية والسياسية) لبعث رسالة مباشرة للرئيس التونسي بأن التدفق المستمر لتلك المساعدات يجب أن يكون مشروطًا بالممارسة الديمقراطية.

 

مسك العصا من المنتصف

وتعاملت إداراة الرئيس الديمقراطي جوبايدن مع الانقلاب في تونس بشيء من الاستخفاف أو التغاضي، واكتفت بالمناشدات والتصريحات الرسمية التي تتحدث عن أهمية الحفاظ على الديمقراطية والدستور وحقوق الإنسان، وبذلك أمسكت واشنطن العصا من المنتصف. هذه المضامين والمواقف جاءت في بيان المتحدث الرسمي باسم وزارة الخارجية الأمريكية نيد برايس نشره موقع سفارة أمريكا في تونس بتاريخ 26 يوليو.  نفس الأمر فعلته المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي التي عبرت عن قلق الإدارة الأمريكية بشأن ما حدث، وفي اتصال هاتفي استغرق قرابة الساعة، أجراه مستشار بايدن للأمن القومي، جيك سوليفان، مع الرئيس سعيد، شدد على "دعم الإدارة الأمريكية للديمقراطية التونسية القائمة على الحقوق الأساسية والمؤسسات القوية والالتزام بسيادة القانون والحاجة الضرورية كي يرسم قادة البلاد الخطوط العريضة لعودة سريعة إلى المسار الديمقراطي". وفي نفس اليوم، أجرى وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، اتصالًا هاتفيًا مع الرئيس التونسي. لكن اللافت أن التصريحات الأمريكية الرسمية لم تعتبر مطلقا ما حدث في تونس انقلابا.

 

إعلام أكثر مصداقية

وعلى عكس الموقف الرسمي الباهت جاءت مواقف وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث الأمريكية أكثر وضوحًا وحسمًا، فتحت عنوان "الديمقراطية التونسية في أزمة بعد إطاحة الرئيس بالحكومة"، نشرت شبكة "سي إن إن" تقريرها في 27 من يوليو أشارت فيه إلى أن تونس تواجه أكبر أزمة ديمقراطية طيلة السنوات العشرة الماضية وذلك بعد إطاحته بالحكومة وتجميده لعمل المؤسسة التشريعية.

أما إذاعة "صوت أمريكا" وهي الإذاعة الرسمية للبلاد، فأشارات في تقرير لها في نفس اليوم إلى أن الديمقراطية التونسية بات ينظر إليها على أنها هشة بعد إقالة الرئيس للحكومة وتعليق عمل البرلمان، لافتة إلى أن قيس سعيد متهم – بالقرارات التي اتخذها – بانقلاب على دستور بلاده. وتحت عنوان "الديمقراطية في تونس على وشك الانهيار مع تحرك الرئيس لتولي السيطرة" نشرت صحيفة "نيويورك تايمز" تقريرها في 26 من يوليوز الماضي، كشفت فيه أن التجربة الديمقراطية التونسية الوحيدة الباقية من ثورات الربيع العربي باتت على شفا الانهيار بعد سعي الرئيس للسيطرة على مفاصل السلطة والاستئثار بالرئاسيات الثلاثة في يده.

المراكز البحثية كانت هي الأخرى حاضرة بقوة في المشهد التونسي، دراسةً وتحليلًا، فقد أشار الباحث شاران جريوال في دراسة نشرها معهد "بروكنجز" تحت عنوان "انتزاع قيس سعيد للسلطة في تونس" إلى أن قرارات الرئيس التونسي تمثل اختبارًا صعبًا ورئيسيًا للديمقراطية في بلاده، لافتًا إلى أن رد فعل الشعب التونسي هو ما سيحدد ملامح المرحلة المقبلة.

وفي السياق ذاته حذرت منظمة "هيومان رايتس ووتش" في دراستها المعنونة بـ"تونس: استحواذ الرئيس على السلطات يهدد الحقوق" من مغبة قرارات الرئيس الأخيرة التي وصفتها بـ"الخطيرة"، مناشدة سعيد بعدم توظيف حالة الإحباط الشعبي لتمرير قرارات بعينها، وطالبته بحماية حقوق الإنسان لجميع التونسيين وإلغاء أي إجراءات قمعية.