محمد هنيد يكتب: تونس.. لماذا يطلب الانقلاب رأس “مخلوف”؟

- ‎فيمقالات

لماذا استهدف الانقلاب مجموعة الكرامة دون غيرها من الكتل النيابية بما فيها حركة النهضة؟ ما هو حجم الخطر الذي يمثله النائب سيف الدين مخلوف على الرئاسة وعلى الدولة؟ لكن هل في مقدور الانقلاب اجتثاث فكرة الكرامة ومشروعها؟ 

في البدء كان الائتلاف 

لم ينشأ الائتلاف إبان الثورة ولا بعدها مباشرة لكنّ جذوره وفكرته كانت هناك قبل الثورة نفسها. لا نقصد بالائتلاف الشخوص والأفراد والعناصر البشرية المكوّنة له بل نقصد به الفكرة نفسها بما هي تعبير عن سقف ثوري أعلى من كل مطالب المشهد السياسي الأخرى. 

صحيح أن الشخوص هي المعبّر عن الفكرة لكن الفكرة تجاوزت أصحابها كما ظهر من خلال نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة التي منحت كتلة الائتلاف مقاعد أكثر مما كان يتوقعه أكثر أعضائها تفاؤلا. لم يكن الائتلاف مشروعا إسلاميا ولا يساريا ولا قوميا ولا ليبراليا، بل كان خطا يتحرك من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار منتقيا أعلى مطالب الأيديولوجيات السياسية متجاوزا طوقها الضيق ومؤسسا لها في التربة التونسية. هذا المشروع كان فكريا شديد الارتباط بالهوية العربية الإسلامية التي يعاديها اليسار واللبراليون ويوظفها القوميون زورا ويخنقها الإسلاميون احتكارا. 

كان الائتلاف مجموعة من الشباب الحالم المنفلت من كل إكراهات التمثيل الحزبي والأطر الأيديولوجية والارتهان الخارجي، لذا فقد كان سقف المطالب عاليا بل عاليا جدا وهو الأمر الذي جعله التشكيلة السياسية الأكثر شعبية في ظرف وجيز جدا. لم يكتمل مشروع الائتلاف بسبب الضربة التي تلقاها عقب الانقلاب لكن كل التوقعات كانت تشير إلى قدرته على اكتساح الساحة السياسية على المديين المتوسط والقريب وهو الأمر الذي ساهم في التعجيل بالإطاحة به.

لم يكن الائتلافيون يَعون أنهم يملؤون الخانة الأخطر في البناء السياسي التونسي وهي الخانة التي عجز الجميع قبلهم عن ملئها وخاصة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية أو حزب التيار الديمقراطي أو غيرها من الأحزاب اللبرالية والديمقراطية. ثم إن التركيبة العُمُرية لنواب الكرامة بخلاف تركيبة الأحزاب التونسية الأخرى جعلتهم أقرب إلى روح الثورة من جهة وأبعد عن حسابات النخب القديمة وعلاقتها بالدولة العميقة. 

الخطوط الحمر

لم يكن لنوّاب الكرامة سقف سياسي بل خاضوا في ما اعتبروه شروطا أساسية للسيادة الوطنية التي عبروا عنها بكل صراحة داخل البرلمان وخارجه. كانت مسألة الثروات الوطنية وفصل السلطات وتكريس الحقوق والحريات الفردية والجماعية نقط الارتكاز الأساسية في خطابهم وقد عبّر عنها نوابهم في مداخلات مدوّية تحت قبّة البرلمان.
 
كانت الحرب على الفساد والظلم أهمّ المحاور التي اشتغلت عليها مجموعة الكرامة وهما المحوران اللذان جلبا لها كل المتاعب. يحاكم اليوم رئيس الكتلة الأستاذ "سيف الدين مخلوف" المحامي والنائب بسبب ما سُمّي زورا من قبل إعلام العار التونسي "غزوة المطار" وهي الحادثة التي أنجد فيها النائب وزملاؤه مواطنة بسبب منعها ظلما من السفر.
 
خاض النواب حربا شرسة ضد القرارات الأمنية التعسفية وعلى رأسها ما سُمّيَ بإجراء S17 المانع من السفر والتنقل بسبب أو دون سبب. كما حاربوا فلول الاستئصال الذين بالغوا في استهداف المدارس القرآنية وكل الأنشطة التي لها علاقة بالدين أو بالهوية وكانت الخلفية الحقوقية لنواب الائتلاف دافعا وأداة لتفعيل الشعارات التي رفعتها الجماعة على الأرض وفي أروقة المحاكم. 

كان ملف الثروات الباطنية أحد الملفات الحارقة التي أرّقت منظومات العصابات. إنها أخطر الملفات التونسية المتعلقة بسيادة الدولة على ثرواتها وقد نجحت أبواق الثورة المضادة في شيطنة كل من يتحدث في هذا الملف أو يثيره. وهو الأمر الذي انسحب على ائتلاف الكرامة الذي خاض في المحرمات المتعلقة بحقيقة استقلال البلاد فنال من حملات الشيطنة ما لم ينله غيره من الأحزاب.
 
كما استقبل نواب الكرامة مُمثِلين عن حركة المقاومة الفلسطينية الذين رفض قائد الانقلاب استقبالهم في قصر قرطاج وهو الأمر الذي أجج مشاعر الغيظ من هذا المكوّن السياسي الموغل في المصادمة النظام الرسمي العربي.

التنكيل والتنكيل المضاعف 

اليوم يقترب النائب سيف الدين مخلوف من أسبوعه الأول في إضراب الجوع الوحشي الذي قرر قيام به باعتباره آخر الأسلحة التي بحوزته أمام تنكيل الانقلاب وتهديد سلامته الجسدية والعائلية داخل السجن وخارجه. لا يتعلق الأمر فقط بالمحاكمة العسكرية لمحام مدني في خرق واضح للقانون والدستور وتلاعب بصلاحيات المؤسسة العسكرية بل يتعلق أساسا بمحاولة الاغتيال المعنوية والجسدية للنائب الثائر ولمشروعه. 

لكن اللافت في مصير جماعة الكرامة أنْ قلّ نصيرهم سواء بين نواب البرلمان من زملائهم أو بين سلك المحامين الذي ينتمي إليه أغلب نواب الائتلاف أو حتى بين أصحاب دكاكين حقوق الإنسان. عزلة الائتلاف هي في الحقيقة عزلة لما بقي من نفَس الثورة بعد أن أدمت خناجر النقابات والعصابات وإعلام العار ومجاميع الفساد خاصرة المسار. 
إيغالا منه في التنكيل بالنواب قطع عنهم قائد الانقلاب جراياتهم ومرتباتهم بل وصل به الأمر إلى منع الدواء عن نائبة مستقلة تعاني من مرض السرطان. كان الانقلاب قبلها قد داهم منازلهم وأرهب ذويهم وبالغ في إلحاق الأذى بالصفوة منهم وهم لا يزالون بين سجين ومطارد ولاجئ. 

أمام صمت زملائهم النواب وزملائهم المحامين والقضاة وأمام تنكّر السواد الأعظم من النخب التونسية بما فيهم حركة النهضة المحسوبين عليها لتضحيات الائتلافيين يكون هذا التيار قد رسم الحدود الفاصلة بين السياسي والتاجر في مسار الثورة التونسية.

قد يستطيع قائد الانقلاب وجماعته التنكيل بأعدائهم وإرهاب ذويهم واستعادة الممارسات القمعية الإجرامية جميعها مثل ما فعلت الدولة العميقة مع المحامي " محمد شريف الجبالي " الذي وقع تسميمه بالمواد المشعّة بسبب فضحه لرؤوس العصابة في تونس لكنها ستكون حتما عاجزة عن اغتيال فكرة الكرامة ومشروعها. 

لن يستطيع الانقلاب اغتيال مشروع التحرر الوطني الذي وصل به الائتلاف إلى سقفه الأعلى رغم عدم اكتمال أنساقه التعبيرية مشروعا سياسيا متكاملا. لن ينجح الانقلاب في وأد حلم الكرامة رغم حزامه القومي واليساري واللبرالي والنقابي ورغم جوقة الحقوقيين التي تبرر الانقلاب وتبارك ذبح الثورة وتلوي أعناق النصوص ليّا. 

أقصى ما يستطيعه الانقلاب هو تأخير الخروج من النفق وخنق مسارات الحرية لكنه سيدفع الثمن باهظا يوم تسقط شروط إمكانه وتمدّده لأنه لقّن الثورة أعظم دروسها ومكّن الثوار من تبيّن توحّش أعدائهم وخيانة الناطقين باسمهم. الثورة مسارات ومطبات وانتكاسات ونجاحات لكنها رغم كل انكساراتها فإنها تتعلّم ذاتيا وتُصحح اتجاهاتها آليا بشكل ستكون معه قادرة على التجدد بنسق أكثر نضجا وصرامة وحزما وأقلّ قابلية للانتكاس والانقلاب.