ياسر الزعاترة يكتب: لتغني بإفشال “صفقة القرن” وتسهيل ما هو أسوأ

- ‎فيمقالات

بين يوم وآخر؛ يخرج علينا الناطقون بلسان محمود عباس، وعناصر "القبيلة الحزبية" التي تمنحه الشرعية، وقبل ذلك قادتها من مدمني التصريحات؛ كي يذكّروا الشعب الفلسطيني بأنه هو من أفشل "صفقة القرن"، كأنما كانت برسم النجاح وهو من أفشلها.

ورأينا بعض هذا اللون من الخطاب في الدوائر الأردنية التي تحدثت أيضا عن إفشال الصفقة، حتى وقعت ملاسنات بينها وبين رموز من سلطة رام الله على الأفضلية في هذا السياق.

والحال أن الصفقة لم تكن برسم النجاح، وهي صارت مجرد ذكرى بعد أن فشل ترامب في الانتخابات، مع أن نجاحه كان أفضل برأيي، لأن وقاحة صفقته كانت ستفرض على قيادة رام الله، وبعض الأنظمة العربية مواقف من لون مختلف عن تلك التي نتابعها راهنا، والتي تفسح المجال أمام ما هو أسوأ؛ ليس من زاوية التفاصيل والحيثيات، بل من زاوية إمكانية التمرير على الأرض.

"صفقة القرن" كانت قفزة في الفراغ، تعكس جهلا من "كوشنر"؛ وبالضرورة من سيده ترامب، بتفاصيل الصراع وتاريخه الطويل، وحيث اعتقد الأول أن بوسعه أن يخدم كيانه الأم على نحو لم يفعله أحد من قبل، الأمر الذي ينسحب على ترامب الذي كان يسعى لإرضاء الصهاينة والتيار الإنجيلي في آن، فيما كان "عقلاء" اللوبي الصهيوني يتحدثون عن استحالة تمرير صفقته، لأنهم أكثر وعيا بصراع لا يمكن التعامل معه كصفقة عقارية.

 

هل كان بوسع عباس أن يمرر صفقة بلا دولة، وبلا سيادة على أقل من نصف الأراضي المحتلة عام 67، ومن دون القدس الشرقية؟

هل كان بوسع أي مسؤول في الأردن أن يقبل بصفقة تحيل سكان الضفة الغربية إليه كديمغرافيا، وتكرّس الوطن البديل، وأقله "التوطين"؟

الجواب هو لا، وقديما قبل عشرين عاما، وفي كامب ديفيد صيف العام 2000، قال عرفات لكلينتون، حين ضغط عليه بشأن الحل في القدس والأقصى: هاتوا لي موافقة مصرية أردنية مغربية سعودية على هذا الطرح، وأنا أوافق (كان ذلك مستحيلا بالطبع)، ثم قال إنه لو وافق لقتله الفلسطينيون حال عودته.

الشعب الفلسطيني ليس قطيعا من الأغنام، والشعب الأردني كذلك، ولا يمكن لأحد أن يفرض عليهما حلا بهذا المستوى من البؤس؛ يصفّي قضية فلسطين، وعلى حساب الأردن أيضا.

ما يعنينا في هذا السياق هو أن التغني بإفشال الصفقة قد أصبح بلا معنى، بل هو مصدر إدانة، حين يتم تسهيل ما هو أسوأ، أي تصفية القضية، وتاليا على حساب الأردن بكل تأكيد، ولكن بدون إعلان ولا توقيعات، بل من خلال تصفية ناعمة.

 

سيتم ذلك من خلال ما كان يسمّى "الحل الإقليمي"، أي تحسين واقع السلطة، وفتح أبواب التطبيع العربي على مصراعيه، وصولا إلى جعل المؤقت دائما، وتجاهل كل الشروط العربية السابقة على التطبيع (الدولة بحدود 67، مع تنازل لاحقا يقبل بتبادل بعض الأراضي)، مع مساعٍ حثيثة تتولّاها مصر، لحصار غزة وإخراجها من دائرة الصراع بعد جعل حاجات أهلها هي الأساس، في ظل استمرار مسار العبث الراهن في الضفة الغربية.

كل ما تابعناه منذ مجيء بايدن إلى البيت الأبيض يصبّ في هذا الاتجاه، ولنلاحظ أن التطبيع العربي قد تسارع على نحو هستيري بعد فوزه؛ وإن كان من خلال الدول التي بدأت أيام ترامب، فيما تسارعت العلاقة بين سلطة رام الله وبين الاحتلال، حتى باتت حكومة الأخير تناشد العالم مساعدة السلطة ماليا كي لا تنهار!

العلاقة المصرية الأردنية بالكيان بدأت بالتصاعد على نحو غير مسبوق، وكذلك مشاركة الأردن بمشاريع التطبيع، كما هو حال الاتفاق الذي يفترض توقيعه يوم الاثنين (22/11)، والذي وصفته صحيفة "معاريف" الإسرائيلية بأنه "اتفاق تاريخي آخر على الطريق. وهذه المرة بين إسرائيل، الأردن، أمريكا والإمارات"، ويتعلق بإنشاء محطة ضخمة للطاقة الشمسية في الأردن، تزوّد دولة الاحتلال بالطاقة الكهربائية، حيث "ستشتري إسرائيل من الأردن الكهرباء، وتبيعها في المقابل الماء"؛ وفق تعبير الصحيفة.

كل ذلك يشير إلى أن مسار "الحل الإقليمي" يمضي بشكل متسارع، بدليل أن الغطرسة التي يبديها "بينيت" في الحديث عن "الدولة الفلسطينية" تبدو أكثر حدة من نتنياهو، من دون أن يغيّر ذلك في صيغة التعامل الرسمي العربي معه، فيما تستجدي السلطة اللقاء معه، وهو يرفض؛ خلافا لنتنياهو الذي كان يطلب اللقاء، بينما ترفض السلطة ذلك.

المواجهة مع هذا البؤس الراهن لا بد أن تبدأ بالساحة الفلسطينية عبر عزل عباس وخياراته، وفتح أفق جديد للشعب الفلسطيني، ثم عبر القوى الحيّة في الأمّة التي يجب أن تعيد الحياة إلى خيارات رفض التطبيع، ولجانه ومؤسساته ونشاطاته، وذلك كي تضغط على المساهمين فيه، وإلا، فإن المسار الراهن سيكون أكثر خطورة من "صفقة" كان رفضها حتميا بسبب وقاحتها المفرطة، مع أن المضي فيها كان هو الأفضل عمليا، لأن الانتفاضة كانت ستندلع سريعا بسببها، فتكنس خيارات السلطة وتعيد الحياة لخيار المقاومة؛ تماما كما فعلت قمة كامب ديفيد عام 2000، والتي كانت مقدمة لـ"انتفاضة الأقصى" التي كنست بدورها مرحلة تطبيع لا تقل سوءا عن المرحلة الراهنة، أقله من حيث عدد الدول المنخرطة فيها.

……………..

نقلا عن "عربي 21"