مراقبة الله أم «الكاميرا»؟

- ‎فيمقالات

كثُر الحديثُ عن رصد وسائل التواصل الحديثة وأجهزتها المتعددة للبَشَرِىِّ، وأن هناك عشرات الرقباء حوله يحاصرونه فى العمل والسوق والشارع وحتى البناية الذى يسكنها، ويتتبعونه ويعدّون عليه خطواته فى دخوله وخروجه وذهابه وإيابه وحركته وسكونه. وهذا الرصد الدائم جعله فى حذر، حريصًا على ألا يقع فى محظور فيتم تصويره ومن ثم تتداول سوأته المواقع التى لا تُحصى حول العالم ويصير عبرة إلى أمدٍ لا يعلمه إلا الله.

ولعل «فيديو» معلمة المنصورة وآلافًا غيره قد طرح علينا، نحن المسلمين، تساؤلات عدة -بعدما استوقفتنا جملة لهذه السيدة كررتها كثيرًا فى حواراتها الصحفية قالت: «لو لم يصورونى وينشروا الفيديو ما سمع أحدٌ بالواقعة»-: هل صرنا نخشى الناس أكثر من خشيتنا لله؟ أيهما أوْلَى: مراقبة الله أم مراقبة الأندرويد والكاميرات؟ لماذا نستخفى من الناس لعمل القبح وننسى الرقيب الذى لا يخفى عليه شىء ولا تفوته فاتئة؟

إن ديننا حافل بالمواعظ التى تجعل المؤمن بريئًا من الوقوع فيما فيه بأس، بعيدًا عن مواطن الشبهة والحرج؛ بفضل ذلك الرقيب الداخلى الذى يلازمه فى ليله ونهاره وعلانيته وسره وقيامه وقعوده وحله وترحاله، ولعلمه بأن الله يراه ويسمعه، بل يعلم ما فى نفسه. وهو على هذه الحال لا يحسب حسابًا للناس قدر خوفه من الله، وخشيته له، وفى يوسف، الكريم ابن الكريم ابن الكريم، المثل وقد أتته الفرصة ما لم تأت شابًّا مثله؛ فالمرأة ذات منصب وجمال، والأبواب مغلَّقة، والعاشقة الوالهة فى مأمن من انكشاف أمرهما، إلا أن قلبه النابض بالإيمان أنطق لسانه فقال؛ (مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) [يوسف: 23].

إن الذين ينتهكون محارم الله حين يختلون بها ينسون ربهم فيوغلون فى الجهل والحمق، فيأتى العقاب على قدر هذا العىّ، وما كان ربك نسيًّا، بل إن معاصى الخلوات تنسف ما قدّم صاحبها من حسنات وما فعل من معروف؛ ذلك أنها جرأة على الله ونفى لعديد من صفاته كالرقابة والعلم بالغيب والشهادة والسمع والبصر إلخ؛ ما حذر منه النبى ﷺ بقوله: ««لأعلمنَّ أقوامًا من أمتى يأتون يوم القيامة بحسنات أمثال جبال تهامة بيضًا، فيجعلها الله هباء منثورًا. قال ثوبان: يا رسول الله، صفهم لنا، جَلِّهِم لنا؛ ألّا نكون منهم ونحن لا نعلم، قال: أما إنهم إخوانكم ومن جلدتكم، ويأخذون من الليل كما تأخذون، ولكنهم أقوام إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها».

وفى سير السلف الصالح دروس بليغة لمن أراد الوقوف على فضيلة وثمار مراقبة الله تعالى، منها قصة «ابن عمر»، رضى الله عنهما، مع الراعى؛ «يقول عبد الله بن دينار: خرجت مع ابن عمر رضى الله عنه إلى مكة، فانحدر علينا راع من الجبل، فقال ابن عمر: أراعٍ؟ قال: نعم، قال: بِعْنِى شاة من هذه الغنم. قال: إنى مملوك. أراد ابن عمر أن يختبر أمانة هذا المملوك فقال: قل لصاحبها أكلها الذئب. قال الراعى بعد أن رفع رأسه إلى السماء: فأين الله؟ فبكى ابن عمر، ثم غدا إلى المملوك فاشتراه من مولاه وأعتقه، وقال له: أعتقتك فى الدنيا هذه الكلمة، وأرجو أن تعتقك فى الآخرة.

إن الذى يخشى «الكاميرا» من دون الله فاته أن هناك رقيبًا أكبر وأعظم قد أحاط بكل شىء علمًا، لا تحده حدود، ولا تمنعه جدران، ولا تُغلَّق فى وجهه أبواب، وكلُّ صغير وكبير عنده مستطر، و(مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ…) [المجادلة: 7]، وهذا أثرُ النفاقِ وفعلُ المنافقين كما ذكر «ابن كثير» فى تفسير قول الله تعالى: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النساء: 108]، قال: «يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم، ويجاهرون الله بها لأنه مطَّلع على سرائرهم عالم بما فى ضمائرهم».

قد يقع المؤمن فى الذنب بجهالة، لكنه يرجع ويتوب من قريب، ولا يتمادى حتى يزول عنه سترُ الله، فهو على يقين بأن عين الله لا تفارقه؛ (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الحديد: 4]، ينتظر أجر الصبر عن المعصية وثواب الخوف من الله؛ (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ) [الملك: 12]، كأحد السبعة الذين يظلُّهم الله يوم القيامة بظلِّه يوم لا ظل إلا ظلُّه؛ «.. ورجلٌ دعته امرأةٌ ذات منصبٍ وجمال فقال إنى أخاف الله»..

من أجل ذلك أسس النبى ﷺ لتلك الشخصية اليقظة بقوله: «استح من الله استحياءك من رجلين من صالحى عشيرتك لا يفارقانك»، ولماذا رجلان؟ لأنهما الحد المطلوب للشهادة فيخاف العاقبة، ولماذا من الصالحين؟ لأنه يخشى الصالح ويهابه فيكون ذلك وقاية له وردعًا عن التورط فى المعصية. فلا يكتمل إيمان المؤمن إلا بهذا الوجل؛ (وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175]، فالله جلَّ فى علاه أحق بالخشية دون سواه؛ (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ…) [الأحزاب: 37]، (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [التوبة: 13].