متَى يكونُ الحوارُ وطنيًّا؟

- ‎فيمقالات
 
ذكَّرنى ما يسمى بـ«الحوار الوطنى» الذى دعا إليه النظامُ بقصة أعمى كان يقودُه مبصرٌ، وبينما يسيران إذ انقطعت الكهرباء فقال الأعمى للمبصر: تعال أقدك فأنا أرى فى الظلام، متصورًا جهله، فقال له صاحبه ساخرًا: لو نفعتَ أحدًا لنفعتَ نفسَك؛ بما يؤكد المثل السائر: (فاقدُ الشىء لا يعطيه).
فإن تلك ملهاة جديدة، وحاجة فى نفوسهم لا تخرج عن رغبة فى تكريس المزيد من التسلُّط بغطاء يزعمونه شرعيًّا؛ إذ اكتفوا بدعوة مجموعة من «الكومبارس» اعتادوا أداء هذه الأدوار الهامشية ومعاونة المستبدين على استبدادهم، ولو أنهم حريصون على المصلحة العامة لأصلحوا ما أفسدوه، بل قل: لتوقفوا عن الفساد ولو ساعة أو بعض ساعة.
إن المواطنة الحقيقية تقوم على ثلاث قيم هى: الحرية، المساواة، المشاركة، والتى تمثل المحاور الرئيسة لضمان الخير العام للبشر، وإقامة العدالة وحقوق الإنسان، من خلال عقد اجتماعى بين المواطن والكيان السياسى التابع له (الدولة وما يتفرع منها)، أما الحد الأدنى لاعتبار دولة ما مراعية لمبدأ المواطنة، فهو زوال مظاهر حكم الفرد، وتحرير الدولة من التبعية للحكام، واعتبار جميع السكان الذين يتمتعون بجنسية الدولة متساوين فى الحقوق والواجبات. [عامر شماخ، المواطنة: بين النظرية والتطبيق].
وإذا لم يسبق هذا (الإجراء الشكلى) ترسيخ للديمقراطية وقيم المواطنة وإنهاء حالة الانغلاق السياسى فلا قيمة له، بل سيصير مادة للسخرية والتندر؛ فعن أى حوار (وطنى!!!) يتحدثون وهناك (60) ألف سياسى رهن الاعتقال، بينهم مئات الشيوخ والنساء والزمنى والأطفال، يعيشون أجواء الموت البطىء بعدما منعوا عنهم العلاج والزيارات وكدّروهم وكدّسوهم، ودوَّروهم فى قضايا جديدة من قضاياهم السياسية ذات الأحكام المجحفة.
وعن أى حوار يتحدثون ونحن -ومن فمهم نأخذُ- شبه دولة، تقمع الحريات، وتسيطر على الإعلام، وتكمّم الأفواه، وتزوِّر الانتخابات، وتصادر الأموال، وتمنع السفر والتنقل، وتفرض الإقامة الجبرية على المعارضين؟ إنه حوارهم الخاص، يسمعون فيه أنفسهم ويصدّقونها، فيزدادون كبرًا وغرورًا، واستخفافًا بعقول الناس، وجرأة على التمادى فى الباطل، وهى أيضًا الملايين من جيوب الشعب التى تُنفق على الخديعة والكذب. 
ولو افترضنا -جدلًا- أنه سيكون حوارًا جادًّا فهل سيطرح المشاركون فيه قضايا مثل: تيران وصنافير، نهر النيل، غاز المتوسط، بيع ممتلكات الشعب، القروض، الغلاء إلخ، ولو حدث ذلك لكنتُ أول المؤيدين للحوار، لكنه لن يحدث، ولن يتوفر لأحدهم الشجاعة لطرح مثل هذه القضايا؛ وإذا كان قد ترشَّح بعض المعارضين للمشاركة فإنها تلك المعارضة المستفيدة المتطفلة ذات الماضى المعروف.
 أما المعارضة الحُرَّة والمصلحون الحقيقيون فإنهم يشاركون فى الحوار إذا كان قائمًا على التكافؤ، والشفافية، والإلزام بالنتائج والتوصيات، وأن يتأكدوا أنهم على قدم المساواة مع الداعين للحوار، وأن يلمسوا رغبة حقيقية فى التغيير، وتجرّدًا من السلطة، وأن مصلحة الوطن مقدمة على شتى المصالح، وأن يكون للحوار محاور وأهداف، كما له مسؤولون ومعاونون مختارون من الأطراف المُشَارِكة -وإلا انتفت عنه صفة الحوار.
فى مجال الإصلاح والتغيير والعمل الإنسانى، لا ينفع الكلام، إنما النافع هو الفعل والإحسان، فتوفير الحماية الاجتماعية، والحق فى الرعاية الصحية، والحق فى الغذاء الكافى، والحق فى بيئة نظيفة -كل هذا لا يكون بإطلاق الشعارات السياسية الجوفاء، وإنما يكون بواقع ملموس، يستوى فيه الغنى بالفقير، والكبير بالصغير، والرجل بالمرأة، والحاكم بالمحكوم.. وافتقاد الصدق في هذه القضية هو ما يجعل «المواطن» فى ناحية، والكلام عن «المواطنة» فى ناحية أخرى. [عامر شماخ، المواطنة: بين النظرية والتطبيق].