السيسي يصر على الخصخصة وفرنسا  تعمل على تأميم شركة الكهرباء

- ‎فيتقارير

عندما تكون إدارة فاشلة غير كفئة وغير محترفة وتتسبب في خسائر للشركة؛ فهل يتم بيع الشركة أم التخلص من هذه الإدارة الفاشلة ومحاسبتها على الفشل وتفشي الفساد داخل الشركة؟ المنطقي هو تغيير هذه القيادة لا بيع الشركة؛ لأنها تبقى الأصل الذي يمكن أن يدر المكاسب والأرباح  حال جيء بإدارة كفئة محترفة.   لكن السيسي يصر على العكس (بيع الشركة والإبقاء على الإدارة الفاشلة الفاسدة)؛ فهل يمكن أن تنهض أمة بهذه النوعية من الفشلة الفاسدين؟ 

وفي الوقت شرع فيه الدكتاتور عبدالفتاح السيسي في بيع أصول الدولة،  والبدء في مرحلة جديدة من الخصخصة بقيمة 40 مليار دولار  على مدار 4 سنوات بقيمة 10 مليارات دولار سنويا؛ فإن الحكومة الفرنسية تتجه نحو تأميم شركة الكهرباء؛ بمعنى أن فرنسا الدولة الغربية الكبرى  تمضي عكس توجهات صندوق النقد الدولي والسياسات الرأسمالية المفروضة على دولنا. فقد عرضت الحكومة الفرنسية دفع نحو 9.7 مليار يورو (9.9 مليار دولار) لتأميم شركة الكهرباء "اليكتريسيتي دي فرانس إس إيه"، حيث تسعى لحل المشاكل المتعلقة بالشركة التي تفاقم أزمة الطاقة في أوروبا. ونقلت وكالة بلومبرج للأنباء عن وزارة المالية الفرنسية القول في بيان لها الثلاثاء 19 يوليو 2022م، إن الدولة سوف تقدم 12 يورو للسهم للاستحواذ على 16% من الشركة التي لا تمتلكها بالفعل. كما سوف تعرض الحكومة على أصحاب الديون القابلة للتحول 15.64 يورو لكل سند، وفقا لبيان وزارة المالية. وفي ظل أسوأ أزمة طاقة تشهدها أوروبا على مدار جيل كامل، تريد فرنسا السيطرة بالكامل على شركة الكهرباء المثقلة بالديون من أجل ضمان عدم ارتفاع فواتير كهرباء الأفراد مع القيام باستثمارات ضخمة للحد من اعتماد فرنسا على الوقود الأحفوري المستورد.

معنى ذلك أن الخصخصة لم تحقق النجاح في شركة الكهرباء، وأن باريس توصلت إلى قناعة مفادها أن الخصخصة لا يجب مطلقا أن تمتد إلى القطاعات الحيوية في الدولة (الكهرباء ــ المياه ــ المترو ــ السكة الحديد ــ الموانئ ــ التعليم ــ الصحة ــ الطاقة والثروات الطبيعية).

 

مخاطر الخصخصة

في ثمانينات القرن الماضي، شاع مصطلح الخصخصة «Privatization»، والعجيب أن حكومات العالم الثالث المتخلف صناعيا واقتصاديا والتي تبنت فلسفة الخصخصة كعقيدة وأيديولوجيا، بررت ذلك بالخسائر التي تتعرض لها الشركات الحكومية؛ وهو عذر أقبح من ذنب؛ فإذا كان الخلل في الإدارة فلماذا يتم بيع الأصول التي هي ملك للشعب ولا يتم تغيير هذه الإدارة الفاسدة معدومة الكفاءة؟ ولماذا يتم انتزاع ملكية الشعب لثرواته وأصوله ويبقى اللصوص كما هم يتولون المزيد من المناصب ويعززون منظومة الفساد؟! وهل تحويل ملكية أصول الدولة من الشعب إلى رجال أعمال أو شركات أجنبية عملاقة متعددة الجنسيات لها أجندات قد تهدد الأمن القومي للبلاد يمثل مصلحة قومية في شيء؟!

الحق أن الخصخصة كالتأميم القسري كلاهما إجراء شاذ ويخالف أبجديات الأمن القومي؛ لأن الخصخصة هي انتزاع ملكية الشعب لأصوله وثرواته لتكون ملكا لحفنة من الفاسدين أو الأجانب. أما التأميم فقد تجاوز حدود تأميم الشركات التي اغتصبها الاحتلال ليصل إلى اغتصاب شركات يملكها مصريون أنشأوها بطرق شرعية، كما جرى مع آلاف المصريين في أعقاب حركة 23 يوليو 1952م، وكما جرى في أعقاب انقلاب 03 يوليو 2013م، بحق شركات قيادات الإخوان وغيرهم مثل شركة جهينة التي تعتبر أكبر شركة لإنتاج الألبان في مصر والمنطقة.

 معنى ذلك أن النظريات الاقتصادية التي تأسست في السبعينات والثمانينات والتي تروج للعولمة بمفهوما الاقتصادي وحتى الثقافي الذي يهدف إلى تغيير هوية الشعوب الضعيفة واغتصاب ثرواتها إنما تمثل شكلا من أشكال الاحتلال الناعم بدلا من الاحتلال الخشن الذي ساد في القرون الثامن عشر والتاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين؛ فالدول الغربية التي خرجت للتو من مستعمراتها في العالم الثالث في أعقاب الحرب العالمية الثانية، راحت تبحث عن آليات أخرى تمتص بها  خيرات الشعوب المحتلة وتنهب ثرواتها وتغتصب أصولها تحت لافتة براقة عن التنمية بالعولمة والخصخصة.

لكل هذه الأسباب، فإن سياسيات نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي تعزز من سيطرة الأجانب على مفاصل الاقتصاد المصري؛  ويمثل إصراره على سياسات الخصخصة والتوسع في بيع الشركات الرابحة بجرأة مخيفة، خطرا على الأمن القومي المصري، ويمكن اعتبارها تمثل عودة لــ«الامتيازات الأجنبية» التي سبقت الاحتلال البريطاني لمصر في عهد الخديوي إسماعيل.

يؤكد على ذلك أن الدراسة التي أعدها «المركز المصري للحقوق الاقتصادية»، والتي تحذر من التشريعات الاقتصادية في ظل نظام 30 يونيو في ظل سيطرة عدد من الشركات متعددة الجنسيات على مفاصل الاقتصاد المصري، مما يعكس وقوع الاقتصاد تحت قبضة رجال الأعمال الأجانب، خصوصاً بعدما استولت تلك الشركات على60% من قطاع البترول و80% بالنسبة لصناعات الأغذية والدواء والاتصالات والإسمنت والألبان والزيوت و40% من حجم تداولات البورصة المصرية، علاوة على تحريكهم البورصة صعوداً وهبوطاً وفقاً لتحركاتهم البيعية والشرائية. وبحسب الدراسة التي نشرت في 2015م، تمتلك الشركات متعددة الجنسيات ما نسبته 60% من صناعة الدواجن والسيارات وأغلب السلاسل التجارية وجزء كبير من المصارف والقرى السياحية والفنادق وقطاع الاستثمار العقاري في مصر. ومن أهم الشركات الأجنبية المستثمرة في مصر تأتي: مايكروسوفت وجنرال إلكتريك، وبي بي النفطية، وكوكاكولا، وكرايسلر، وفورد، وبريتش بتروليوم. ويصل عدد العلامات التجارية الأجنبية المسجلة داخل السوق المصرية إلى نحو 28 ألف علامة مقابل 400 علامة مسجلة لشركات محلية، وهو ما يعكس سيطرة أجنبية كبيرة على مفاصل الاقتصاد المصري.

وبحسب دراسة حديثة نشرها موقع "الشارع السياسي" بعنوان « موجة الخصخصة الجديدة (2022).. ملامحها ومخاطرها»، فإن الموجة الجديدة للخصخصة التي أعلن عنها الدكتاتور السيسي في حفل إفطار الأسرة المصرية (الثلاثاء 25 رمضان 1443هــ 26 إبريل 2022م)  وتمثلت في "وثيقة ملكية الدولة المصرية" التي أعلنتها الحكومة  منتصف مايو 2022م، تختلف كليا عن المحطات السابقة؛ ذلك أن النظام العسكري قديما كان يبرر الخصخصة التي بدأت مع صدور القانون رقم 203 لسنة 1991، بالتخلص من الشركات الخاسرة في وزارة قطاع الأعمال العام؛ أما اليوم فإن الخصخصة باتت هدفا بحد ذاتها وطالت قطاعات حساسة للغاية، والهدف منها هو بيع الشركات الناجحة والتي تتحقق أرباحا كبرى للدولة لتكون ملكيتها لشركات أجنبية أو حيتان القطاع الخاص. وبذلك يتجه السيسي لبيع أصول الدولة  المربحة من أجل تسديد فوائد الديون التي اقترضها خلال السنوات الماضية حيث تبلغ قيمة فوائد الديون وأقساطها في مشروع موازنة "2022/2023" نحو  1,655 تريليون جنيه، بينما تبلغ كل موارد الدولة المتوقعة في مشروع الموازنة نحو (1.517) تريليون جنيه فقط! وكذلك بهدف توفير السيولة التي يحتاج إليها لاستكمال مشروعاته العملاقة التي لم يستفد منها الاقتصاد المصري شيئا، وتسببت في أزمة السيولة التي تفاقمت بعد ذلك بسبب تداعيات تفشي جائحة  كوورنا والغزو الروسي لأوكرانيا.

لكن الأكثر خطورة أن السيسي يتجه لبيع شركات حيوية في ملفات بالغة الحساسية للأمن القومي مثل قطاعات الكهرباء والمياه والنقل البري والبحري كالسكك الحديدية والمترو والموانئ وهي قطاعات تمثل رمزا على سيادة الدولة واستقلالها. فالمستفيد الأول من هذه الخصخصة هي الشركات الأجنبية وصناديق الاستثمار الخليجية،  وحيتان السيسي من رجال الأعمال.

من جانب آخر قد تكون بعض تجارب الخصخصة قد حققت نجاحا جزئيا في عدد قليل من دول العالم، لكن تجربة مصر مع الخصخصة حققت فشلا ذريعا يضرب به المثل في سوء الإدارة، وذلك لعدة أسباب: أولها أنها تتم بعيدا عن رقابة صاحب الملكية وهو الشعب، حيث تتبنى الحكومة هذه التوجهات وتمضي في تنفيذها دون اكتراث لمواقف الشعب ورفضه للخصخصة، لا سيما وأن نظام الحكم في مصر مثل معظم البلاد العربية لا يتمتع بشرعية التفويض الشعبي عبر أدوات الديمقراطية الصحيحة، كما أن البرلمان هو مجرد صورة جرى تشكيله تحت رعاية أجهزة السلطة فهو لا يمثل الشعب حقيقة. ثانيها، أن إجراءات الخصخصة في مصر تتم في مناخ كامل من انعدام الشفافية، ويبرهن على ذلك أحكام القضاء في عدد من تجارب الخصخصة التي جرت في عهد مبارك وحجم الفساد التي شابها. ثالثها، أن الخصخصة في مصر طالت قطاعات حساسة وبالغة الأهمية ونقل ملكيتها من الشعب إلى حفنة من المستثمرين المصريين أو الأجانب يمثل تهديدا للأمن القومي للبلاد مثل صناعة الحديد والصلب والصناعات الثقيلة، والخدمات العامة كالكهرباء والمياه والنقل والسكة الحديد والمترو وغيرها؛ وقد يترتب على ذلك اضطرابات اجتماعية لا يمكن احتواؤها مثل رفع أسعار الخدمات بصورة كبيرة تفوق قدرات معظم المواطنين. ولذلك اعتبرت تجربة الخصخصة في مصر ثاني أسوأ تجارب الخصخصة في العالم بعد تجربة روسيا في عهد بوريس يلتسين.