10 سنوات على “رابعة”.. كيف مزقت المذبحة المجتمع ودشنت مرحلة الاستبداد والطغيان؟

- ‎فيلن ننسى

رغم المحاولات المستميتة من جانب نظام انقلاب 30 يونيو  لقلب الحقائق والتهرب من المسئولية عن الدماء التي سفكها في اعتصامي ميداني رابعة العدوية ونهضة مصر وغيرها من ميادين مصر فجر 14 أغسطس 2013م، إلا أن وحشية الجريمة وإفلات الجناة من أي محاكمة أو مساءلة حتى اليوم؛ يدفع أصحاب الضمائر الحية محليا وعالميا إلى التذكير المستمر بالجريمة الأكثر وحشية في تاريخ مصر الحديث والمعاصر والمطالبة بتقديم المتورطين للعدالة لأن الجريمة من الحجم الكبير الذي لا يسقط بالتقادم مهما مضى عليها من سنين أو حتى عقود.

وكانت منظمة العفو الدولية، قد اتهمت في أغسطس 2017 النظام العسكري في مصر بالإصرار على "محو أي ذكر لمذبحة" رابعة العدوية والنهضة، وترك مقترفيها دون عقاب أو مساءلة، وانتقدت المؤسسة الدولية تجاهل سلطات الادعاء "النائب العام" وقالت إنه كان من واجبها تقديم المسئولين عن مأساة 2013 للعدالة، لكن النيابة العامة بحسب منظمة  العفو الدولية لم تبد أي استعداد للتحقيق في تلك الجرائم وإحالة المسؤولين عنها إلى المحاكمة". وقالت نجية بونعيم مديرة الحملات لشمال إفريقيا في منظمة العفو إن "النظام (المصري) مصمم على محو أي ذكرى لمذبحة صيف عام 2013"، وفق بيان المنظمة.

وإذا كان من الظلم عدم تقديم المتورطين في الجريمة الوحشية من عناصر الجيش والشرطة لأي محاكمة حتى اليوم؛ فإن الظلم الأكبر هو تقديم الضحايا لمحاكمات مسيسة باعتبارهم جناة متورطين في المذبحة التي تعرض فيها ذووهم وإخوانهم وأبناؤهم للقتل بوحشية مفرطة كشفت عن حجم الأمراض النفسية التي يعاني منها قيادات وعناصر الجيش والشرطة؛ إذ كيف يحاكم فضيلة المرشد العام للجماعة وقد قتل ابنه المهندس عمار على يد هذه العصابات المسلحة التي سطت على الجيش والشرطة  والبلد كله بقوة السلاح؟ وكيف يحاكم الدكتور محمد البلتاجي وقد شاهد العالم كله بثا حيا لقتل ابنته الشهيدة أسماء على يد هذه العصابات المجرمة التي قادت انقلابا على النظام الديمقراطي وأسست لدولة الخوف والاستبداد؟!

الانقلاب وما تلاه مذابح وحشية على يد مليشيات خاصة من الجيش والشرطة وليس كل الجيش وليس كل الشرطة، أدى إلى تمزيق النسيج الوطني وجعل البغاة الشعب شعبين؛ وعلى خطى فرعون مضى كبيرهم يملأه الكبر  والغطرسة والغرور { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)}.

وهذه أكثر المخاطر التي ترتبت على الانقلاب العسكري وما تلاه من مذابح:

أولا، الانقسام المجتمعي الحاد، كان الانقسام قبل الانقلاب سياسيا وهو أمر طبيعي يمكن حله بالآليات السياسية والديمقراطية المتعارف عليها، كالحوار والانتخابات والاستفتاءات وغيرها، لكن بعد الانقلاب  ثبت أن المؤسسة العسكرية ـــ بتحريض دولي وإقليمي ـــ هي من كانت تقف وراء هذا الانقسام السياسي الحاد وهي من أغوت القوى المعارضة للرئيس مرسي بانحيازها لهم والقضاء على الإخوان ذاتهم وليس حكم الإخوان بحسب ما تردد وقتها؛ ما جعلهم يصعدون من لهجتهم متجاوزين جميع الأعراف والقيم الديمقراطية ويرفضون جميع دعوات الحوار مع الرئيس المدني المنتخب؛ طمعا في الحكم على ظهور دبابات الجيش بعد أن يئسوا من الفوز بثقة الشعب عبر الآليات الديمقراطية.  ولتعزيز هذا الانقسام الحاد؛ شنت الآلة الإعلامية للنظام الانقلابي أكبر حملة دعاية سوداء بحق الإخوان والحزب الحاكم الذي تم الانقلاب عليه؛ وجاءت أغنية "انتوشعب واحنا شعب" للمغني علي الحجار لتؤكد الكارثة وبات الشعب شعبين؛ شعب ينتمي للنظام الجديد ويمثله الجيش والشرطة ومؤسسات الدولة العميقة، وشعب ينتمي إلى مصر وثورة 25 يناير ويدعم المسار الديمقراطي،  وجلهم من الحركات الإسلامية التي تؤمن بالمسار الديمقراطي والانتخابات كآلية للوصول إلى الحكم. هؤلاء بالملايين وهؤلاء أيضا بالملايين حتى وصل الانقسام إلى كل بيت وكل أسرة وكل عائلة وفي الدووايين الحكومية والشركات وأصحاب المهن الحرة وبات التصنيف السياسي علامة على هذا الانقسام الحاد فهذا إخواني وهذا سيساوي.

ثانيا، فقدان الثقة في الجيش ومؤسسات الدولة، ويعد أحد المخاطر التي تولدت عن الانقلاب وما تبعه من مذابح وحشية مفرطة، فالانقلاب جعل نصف الشعب على الأقل يكفر بالمؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة العميقة، وتراجعت شعبية المؤسسة العسكرية لمستويات قياسية وغير مسبوقة بعد الانقلاب مباشرة خصوصا وأن الجيش كشف عن وجه قبيح بتوجيه السلاح لصدور الشعب بدلا من الأعداء، ومع مرور الشهور والسنوات؛ ومع فشل النظام في إدارة شئون  البلاد، وتكريس توجهات الجيش الاحتكارية على مفاصل الاقتصاد وسيطرتها على حوالي 60% من إجمالي الاقتصاد المصري وفق تقديرات مؤسسات متخصصة في الاقتصاد. كل هذه العوامل أفضت إلى تراجع حاد وشديد الخطورة في شعبية المؤسسة العسكرية التي باتت عنوانا للاستبداد السياسي والاحتكار الاقتصادي، والتحالف مع الصهاينة العدو التاريخي اللدود للشعب المصري. وجاء العجز الفاضح في ملف سد النهضة وعدم قدرة النظام والمؤسسة العسكرية في حماية الأمن القومي للبلاد ليرفع الغطاء عن هذه المؤسسة التي عشش الفساد  جوانبها.  كما فقد الشعب الثقة في باقي مؤسسات الدولة، فالشرطة محل كراهية الشعب منذ عقود طويلة لكن المذابح الدموية أكدت لملايين المصريين أنهم أمام مؤسسة يتوجب تطهيرها كاملا وإقامة جهاز أمني جديد على أسس سليمة إذا أرادت مصر النهوض والتقدم وإقامة نظام ديمقراطي سليم. كما فقد الشعب أي ثقة في القضاء المسيس والمؤسسة الدينية الرسمية التي كشفت عن نفاق مزمن متأصل في نفوس قادتها للنظام العسكري السلطوي، أما المؤسسة الكنسية فانحازت لمؤسسة القوة "الجيش والشرطة" على حساب ملايين المسلمين الذين يعيشون مع الأقباط منذ مئات السنين في سلام ووئام دون مشاكل. متناسية أن النظم حتما تتغير ولكن الشعوب لا تتغير وتبقى مواقف الكنيسة الداعم والمحرضة على الانقلاب ثم سفك الدماء شرخا لن يندمل بسهولة على مر العقود والقرون المقبلة، سيولد ملايين المسلمين مدركين أن الكنيسة تنحاز لأي قوة أو تيار ضد الإسلاميين المطالبين بالشريعة حتى لو كانوا سلميين مؤمنين بالديمقراطية والانتخابات. ولن تزول هذه الصورة  المشينة للكنيسة إلا بمواقف مغايرة من قادة الكنيسة يمكن أن تخفف حدة المشاعر جراء غدر الكنيسة وخيانتها للمسلمين.

ثالثا، فقدان الأمل في التداول السلمي للسلطة، ومن أخطر الانعكاسات على مستقبل مصر جراء الانقلاب والمذابح الوحشية التي نفذها الجيش والشرطة، هو غلق باب الأمل في أي تداول سلمي للسلطة، فالانقلاب يمثل رسالة واضحة أن صناديق  السلاح والذخيرة هي من تحسم الصراع وليست صناديق الانتخابات وإرادة الشعوب، فمرسي قد انتخب قبل عام من الانقلاب في أنزه انتخابات في تاريخ مصر، ورغم ذلك دبرت المؤسسة العسكرية ومؤسسات الدولة العميقة حشودا مصطنعة بفعل توظيف الخلاف السياسي والتحريض الإعلامي الذي استخدم جميع الوسائل غير الشريفة وغير المهنية وبتحريض من واشنطن وتل أبيب وعواصم خليجية مولت الانقلاب بمليارات الدولارات وكافأت الجنرال السيسي بعشرات المليارات من الدولار على قيامه بهذا الانقلاب السافر والمذابح الوحشية. فبعد 30 يونيو تأسس نظام شمولي استبدادي يستحيل أن يتم تغييره بالوسائل والآليات الديمقراطية، لكن الأكثر خطورة أن ملايين الشباب من الإسلاميين وغيرهم وصلتهم الرسالة؛ فلا مكان لكم في مصر ولا حكمها حتى لو فزتم بثقة الشعب؛ وهو ما أفضى إلى بث الروح في أفكار التنظيمات الراديكالية المسلحة التي لا تؤمن بالديمقراطية أو الانتخابات طريقا للحكم والتداول السلمي للسلطة، فقد فشل مسار الإخوان المؤمنين بالانتخابات ووصلوا لأكثرية البرلمان فانحل بحكم قضائي مشبوه، وسنوا دستورا وافق عليه الشعب  بالأغلبية فتم تعليق العمل به وتغييره قبل حتى أن ينفذ، ثم فازوا بالرئاسة فانقلب الجيش عليهم واعتقل الرئيس وأركان الحكومة! فأي سبيل أمام ملايين الشباب حتى يحققوا تصوراتهم التي يحلمون بها في وطن ينعم بالحرية والعدالة وفق مرجعية الشريعة الإسلامية؟!  وبهذا يمكن اعتبار الجنرال السيسي هو  القائد الفعلي لتنظيم داعش  والقاعدة وبيت المقدس وولاية سيناء؛ فلولا انقلابه المشئوم لماتت أفكارهم المتطرفة التي تراجعت بقوة خلال مرحلة ما بعد ثورة 25 يناير2011، ولكن السيسي سد النوافذ الديمقراطية والمسارات الطبيعية للتداول السلمي للسلطة؛ فأحيا أفكار القاعدة وداعش وغيرها، وهو بذلك أيضا جعل أفكار الإخوان والحركات الإسلامية المؤمنة بالديمقراطية والانتخابات أمام اختبار قاس، وفقد خطاب الجماعة والحركات المؤمنة بالديمقراطية أي بريق أو ثقة حتى تتشكل ملامح جديدة وفق التطورات  الحادثة بعد الانقلاب؛ لذلك لا أمل في عودة الروح لهذا الخطاب الإخواني القديم بالدعوة إلى الاحتكام للانتخابات والشعب  إلا بإسقاط الانقلاب  حتى يسترد هذا الخطاب قيمته وتأثيره بين ملايين الشباب المحبط اليائس. و«ساهم إسقاط حكومة مرسي المنتخبة في تشجيع النظامين السوري والعراقيّ مما ساهم في انتشار تنظيم «الدولة الإسلامية» ودفع اتجاهات كان «الإسلام السياسي» قادراً على احتوائها نحو التطرّف، يأساً من إمكانيات التغيير الديمقراطي أو انتقاماً لما يحصل في مصر والعراق وسوريا وليبيا واليمن وغيرها.