هذه بركة الإيمان 

- ‎فيمقالات

 

المؤمن كريم النفس، عظيم الخصال، لا يخضع لشهوة، ولا يستذله خوفٌ ولا طمع، حريصٌ على سمعته وكرامته، يصبر فى الضراء، ويشكر فى السراء، ذو قوة نفسية تصغر أمامها جميع القوى المادية…

 «وتلك طبيعة الإيمان إذا تغلغل واستمكن، إنه يضفى على صاحبه قوة تنطبع فى سلوكه كله، فإذا تكلم كان واثقًا من قوله، وإذا اشتغل كان راسخًا فى عمله، وإذا اتجه كان واضحًا فى هدفه، وما دام مطمئنًا إلى الفكرة التى تملأ عقله، وإلى العاطفة التى تعمر قلبه، فقلما يعرف التردد سبيلاً إلى نفسه، وقلما تزحزحه العواصف العاتية عن موقفه، بل لا عليه أن يقول لمن حوله.. (قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ) [الزمر: 39، 40]..

هذه اللهجة المقرونة بالتحدى، وهذه الروح المستقلة فى العمل، وتلك الثقة فيما يرى أنه الحق، ذلك يجعله فى الحياة رجل مبدأ متميزًا، فهو يعاشر الناس على بصيرة من أمره، إن رآهم على الصواب تعاون معهم، وإن وجدهم مخطئين نأى بنفسه واستوحى ضميره وحده» [جدد حياتك، الشيخ الغزالى].

  يقول الربيع بن خثيم: «إن الله تعالى قضى على نفسه، أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له، وتصديق ذلك فى كتاب الله تعالى: (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن: 11]، (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ…) [الطلاق:3]، (إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ) [التغابن:17]، (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [آل عمران:101]، (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) [البقرة: 186]».

إن حصول السكينة فى قلب المؤمن نتيجة طبيعية لاعتزاره بالله، وتفويض الأمور إليه، وساعتها يستصغر كل شىء، وأى شىء، فلا يخاف، ولا يحزن، ولا يقلق، وتملأ الطمأنينة قلبه، فيستعلى بها على كل أسباب الذلة والانحناء لغير الله…

 • لما خاف أصحاب موسى أن يدركهم فرعون فيقتلهم، قال لهم نبيهــم بثـقة المـؤمن وإيمان الواثق: (إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ) [الشعراء: 62].

• وأصحاب محمد، لما رأوا الأحزاب قالوا: (هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا) [الأحزاب: 22].

• وخــاف أبو بكر أن يراهما القوم -هو والنبى- وهما فى الغار، فقال له النبي ﷺ (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة: 40].

• ووقف نوح متحديًا قومه قائلاً: (يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس: 71، 72].

• وفعل هود الأمر نفسه مع قومه؛ (قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ [هود:54- 57].

• وشعيب ضرب المثل فى حسن التوكل على الله، والاعتصام به؛ (قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ) [الأعراف: 88، 89].
• ومؤمن آل فرعون الذى استبشر بقتله؛ (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ  وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) [يس: 26- 29].

• ولقد ضرب السعدان (سعد بن معاذ سيد الأوس، وسعد بن عبادة سيد الخزرج)، المثل فى عزة وثبات من يعزِّر الله، وينصره، ويوالى أولياءه. لما أراد النبى ﷺ أن يصرف الأحابيش عن المدينة فى غزوة الأحزاب، أغرى زعماءهم بالحصول على ثلث ثمار المدينة مقابل الرجوع من حيث أتوا. فلما علم (السعدان)، دار بينهما وبين الرسول ﷺ الحوار التالى:
– السعدان: يا رسول الله! أمرًا تحبه فنصنعه، أم شيئًا أمرك الله به؛ فلا بد لنا من العمل به، أم شيئًا تصنعه لنا؟
–  النبى ﷺ: بل شىء أصنعه؛ والله ما أصنع ذلك إلا لأننى رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة وكالبوكم من كل جانب، فأردتُ أن أكسر عنكم من شوكتهم إلى أمر ما.
–  سعد بن معاذ: يا رسول الله! قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قِرًى أو بيعًا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتي يحكم الله بيننا وبينهم.
– النبي ﷺ: فأنت وذاك».

إنها عزة المسلم واستعلاؤه بإيمانه؛ الذى لا يسمح بأن يكون للكافرين أو الظالمين أو المنافقين عليه سبيلاً؛ (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا) [النساء: 141]، وإنها الكرامة التى تجعل المؤمنين هم الغالبين، المفلحين، وإنه الفضل من الله الذى يكف به أذى الطغاة والظالمين عن الصالحين؛ (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا) [الأحزاب: 25].

فمن أراد جنى ثمار العزة، من إشراق النفس، وعلو الهمة، ورفعة القدر؛ فعليه بسلوك دروبها؛ بالصبر على طول الطريق، وظلمته ووحشته، وبالمضى قدمًا فى طريق الكفاح، معتصمًا بالله، آويًا إلى ركنه الشديد، غير متطلع إلى جيوش الظلام ورايات الخسة والنفاق.