كلما ترسخت الحرية بالمجتمع، توسعت حدود الإبداع والاختراعات والابتكار، والعكس صحيح، فمع القمع والاستبداد وسيطرة المستبدين والجهلة ومحدودي المعرفة، كما هو متفش الآن بمصر السيسي، حتى تزايدت وقائع السرقات العلمية والإبداعية، وتعددت فضائحها، بشكل رسمي.
وكان أخرها، قرار إدارة مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة، بسحب الـ"بوستر" الإعلاني الرسمي للدورة المقبلة عقب ساعات قليلة من إطلاقه، بسبب اكتشاف مخالفته لحقوق الملكية الفكرية كونه يعود لأحد الفنانين التشكيليين الأتراك.
وتعرض القائمون على المهرجان لانتقادات نظرا لأنهم لم يشيروا أو ينوهوا إلى أن التصميم مقتبس، ما اضطرهم لسحب البوستر بعد ساعات من نشره على الصفحة الرسمية لمهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة على فيسبوك.
كما تقدم رئيس المهرجان في دورته المقبلة عصام زكريا باعتذار رسمي، قائلا إن "الملصق لم يتم استخدامه أو طباعته، لافتا إلى أنه اتخذ قرارا بإلغائه واستبدال آخر جديد به، سيتم تصميمه لاحقا".
وأضاف زكريا في تصريحات إعلامية، السبت الماضي، أن إدارة المهرجان ستراجع الأعمال السابقة للمصممة التي قدمت البوستر، موضع الجدل، وتابع "الحمد لله إننا اكتشفنا الغلطة بدري ونعتذر للناس".
كما أكد رئيس المهرجان أن ما حدث لم يكن مقصودا وأن الفنانة التي صممت البوستر لها أعمال سابقة جيدة.
وكانت صحف ومواقع إخبارية محلية مثل موقع صحيفة الأهرام، نقلت عن مصممة الملصق المثير للجدل -وتدعى هدير السجاعي- قولها، إن "فكرته جاءت من وحي الأفلام التسجيلية التي يعرضها المهرجان، والعلاقة بين السينما والجمهور، بألوان ملائمة للروح".
وقارن ناشطون بين التصميم المُعلن مؤخرا من قبل إدارة المهرجان، وآخر يكاد يكون مشابها تماما بنفس الألوان لتصميم ثان، كان قد تم نشره في وقت سابق على شبكة التواصل بنترست لنشر الصور، حيث نسبه مدونون لفنان تركي.
ومن المقرر أن تنطلق فعاليات الدورة الـ24 من مهرجان الإسماعيلية في الفترة من 14 إلى 21 من شهر مارس المقبل.
جدارية المترو
وفي يوليو الماضي، أثارت لوحات تشكيلة زينت محطة مترو كلية البنات الجدل، نظرا لسرقتها من لوحات لفنان روسي ولا تعبر عن الحضارة المصرية، فيما طالب البعض بمحاسبة المسؤولين عن ذلك.
بدأت الأزمة حين تداول نشطاء صورا للوحات التي زينت محطة مترو الأنفاق "كلية البنات" شرق القاهرة، التي صممتها الفنانة التشكيلية المصرية غادة والي، وقال بعضهم إن الرسوم مقتبسة من لوحات الفنان الروسي جورجي كوراسوف.
ومع انتشار التصميمات، أشار عدد من الفنانين التشكيليين والنقاد الفنيين إلى وجود شبهة سرقة من الفنان التشكيلي الروسي المعروف بالأسلوب التكعيبي.
مع تفاعل الجدل، وصلت الصور للفنان الروسي الذي أكد استخدام 4 من لوحاته في تصميمات مترو أنفاق القاهرة دون تصريح منه أو حتى الإشارة إلى اسمه، بينما لم يصدر أي تعليق من الفنانة غادة والي التي التزمت الصمت بشأن الواقعة رغم محاولات صحف مصرية التواصل معها.
سرقة التصميمات لم تكن الأزمة الوحيدة، إذ أشار البعض أيضا إلى أن الرسوم تعود لسيدات من أفريقيا ولا علاقة لها بنساء مصر الفرعونية.
بدوره، قالت نقيبة التشكيليين عميدة كلية الفنون الجميلة السابقة صفية القباني، إن "الفنانة غادة والي ليست عضوة في نقابة الفنانين التشكيليين ولا تعرفها، وإن ما حدث من استنساخ لأعمال الفنان الروسي دون تصريح منه تعدّ عليه وعلى حقوق الملكية الفكرية".
وأضافت القباني في منشور لها بموقع فيسبوك إن المسؤول المباشر عما حدث هو من أوكل لها العمل في مشروع قومي على مرأى ومسمع من العالم كله، دون الرجوع لأرباب الفن وهم كثيرون، خاصة أنها ليست فنانة جداريات.
وطالبت نقيبة التشكيليين بتفعيل قانون مزاولة المهنة لتصبح النقابة جهة حاكمة لأي فنان ويحاسب أمامها، وألا تُسند الأعمال الكبرى إلا لمستشاري النقابات لتنظيم العمل، وحتى لا يتكرر ما حدث مع غادة والي.
وفي مقال بعنوان "في محطة كلية البنات" قالت الكاتبة الصحفية عبلة الرويني إن "غادة والي اختيرت ضمن أقوى 100 امرأة في أفريقيا، وتم تكريمها في المجلس القومي للمرأة بصفتها نموذجا للفتاة الموهوبة، لكن من المؤسف أن تبدأ خطواتها بالسطو على أعمال الفنانين دون أدنى جهد في البحث والتقصي".
وفي المقال المنشور بصحيفة الأخبار الحكومية، قالت الرويني إن "أسئلة كثيرة بحاجة إلى رد واضح من المسؤولين عن أعمال المشروع الثقافي والجمالي لتطوير مترو الأنفاق، مثل ما فلسفة ورؤية المشروع لتجميل محطات مترو الأنفاق؟ وعلى أي أساس ومعيار يتم اختيار الفنانين؟ وما معنى نقل أو استخدام أعمال فنان عالمي أو أي فنان آخر دون الحصول على موافقته، ودون الإشارة إليه، سوى أن يكون ذلك سرقة وفي وضح النهار؟ والأهم كيف يتم تصويب الخطأ"؟
وأضافت أنه دون منطق، صورت غادة والي الوجوه المصرية الفرعونية في اللوحات باللون البني الداكن والأسود، وهو ما يتشابه مع رسومات وأفكار الأفروسنتريك أو المركزية الأفريقية التي تعمل على تسليط الضوء على الهوية الأفريقية وتأثيراتها في العالم، وتنسب الحضارة المصرية القديمة وكل شمال أفريقيا إلى الحضارة الإغريقية.
وأوضح كروسوف أن 3 من اللوحات الأربع مباعة بأرقام 38 لعام 1995، ورقم 116 لعام 2001، ورقم 168 لعام 2005، بينما لا تزال الرابعة متوفرة وتحمل رقم 212 لعام 2012.
وأشار الفنان الروسي إلى أن إحدى اللوحات المستخدمة في محطة المترو ليست عن مصر القديمة، بل هي عن اليونان القديمة، موضحا أن في هذه اللوحة تم رسم "زوجة بينلوب" في ملحمة "هوميروس" بينما إحدى اللوحات عن الرقص المصري من سلسلته "رقص عالمي" (International Dancing).
وعن شعوره بعد رؤية أعماله ضمن تصميم محطة المترو دون نسبتها إليه، قال الفنان الروسي إنه "لا يشعر بالأذى لأنهم استخدموا أعماله، ولكنه اعترض على عدم الإشارة إلى اسمه، وتمنى إيضاح الأمر".
وزعم عدد من رواد مواقع التواصل أنها ليست المرة الأولى التي تنسب فيه غادة أعمال غيرها لنفسها، في إشارة إلى قيامها بنسبة تصميم الشعار الذي تم استخدامه في حفل افتتاح طريق الكباش لنفسها، دون الإشارة إلى الفريق الذي قام بتصميمه.
ولعل الواقعتين تؤكدان مدى الانهيار الثقافي وتراجع روح الإبداع لدى المصريين في ظل الاستبداد والقمع العسكري، الذي يعتمد الأمر المباشر في إسناد المشاريع والمهام لمقربين له، دون وعي أو التزام معايير واضحة للاختيار، وهو ما يغيب الفنانيين الحقيقيين ويقتل روح الإبداع وحرية الفكر والتعبير في مصر المبتلاة بالحكم العسكري.