فراس أبو هلال يكتب: المنشد أبو مازن.. التيار الإسلامي من “الطائفة” إلى “الأمة”

- ‎فيمقالات

لو قيض للحاج رضوان عنان الشهير بـ"أبو مازن" أن يطلع بعد موته على ما كتب عنه من رثاء، لشعر بالصدمة من حجم التفاعل الواسع مع وفاته من قبل طيف واسع من الإسلاميين، سواء من ظل منهم على نفس أفكاره التي تبناها في الثمانينيات من القرن الماضي، أو من تغير فكره مع الزمن، أو حتى من انتهت علاقته تماما مع التيار الإسلامي، ولم يبق منها سوى خيط رفيع من الذكريات والنوستالجيا.

لا يوازي هذه الصدمة "المتخيلة" سوى تفاجؤ "أبو مازن" عندما عرف مدى انتشار أناشيده بعد عقود من رحيله غير المعلن من سوريا إلى مصر، رغم أنه قبل الرحيل شعر بعدم أهمية هذه الأناشيد، ودفن أشرطته وكتبه وبنى عليها جدارا خوفا من أن يجدها نظام حافظ الأسد القمعي في ذلك الوقت، كما قال في فيلم وثائقي بثته الجزيرة عنه عام 2012.

لا تكفي العوامل الفنية والشخصية المجردة لتفسير هذا الانتشار الكبير لأناشيد "أبو مازن" لدرجة فاجأت صاحبها، بل إن عوامل أخرى بعيدة عن الفن تضافرت لصناعة أسطورته، أهمها أن أناشيد "أبو مازن" والجيل الأول من المنشدين الحركيين وخصوصا "أبو الجود" و"أبو دجانة" مثلت جزءا مهما من "الرموز المشتركة" للإسلاميين في كل مكان. وإذا استعرنا أفكار علم "الهويات" وطبقناها لدراسة الإسلاميين، فإن من الممكن القول إنهم يمتلكون رموزا مشتركة، حقيقية أو متخيلة، شكلت هويتهم في فترة زمنية معينة، كما تفعل الرموز المشتركة في تشكيل هويات أي مجتمع بشري.

إذا استعرنا أفكار علم "الهويات" وطبقناها لدراسة الإسلاميين، فإن من الممكن القول إنهم يمتلكون رموزا مشتركة، حقيقية أو متخيلة، شكلت هويتهم في فترة زمنية معينة، كما تفعل الرموز المشتركة في تشكيل هويات أي مجتمع بشري
تيار سياسي أم "طائفة"؟

عرف التيار الإسلامي عدة مراحل فرضتها ظروف الدول التي مارس نشاطه فيها من جهة، ومراجعاته وتغيراته التي خلقتها التجربة، وخصوصا تجارب المشاركة السياسية في أكثر من بلد عربي ومسلم من جهة أخرى. صنعت كل مرحلة تاريخية عاشها هذا التيار منهجه الفكري والسياسي خلالها، كما ساهمت في تشكيل "هوية" اجتماعية لأبنائه، وصفات تصلح للدراسة من قبل متخصصي علم الاجتماع السياسي.

ظهرت التيارات الإسلامية الإصلاحية، سواء بنسختها السلفية أو الإخوانية أو "الجهادية"، في ظروف استثنائية في أعقاب انهيار الخلافة العثمانية ووقوع الدول العربية تحت الاستعمار الغربي، وفي ظل تصاعد لتيارات "هوياتية" متأثرة بالتجربة الأوروبية. كان الصراع على الهوية على أشده في الفترة ما بين عشرينيات وسبعينيات القرن الماضي، وظهرت في هذه العقود أفكار إصلاحية كثيرة، إسلامية ويسارية وليبرالية وقومية، اختلفت في كل شيء، ولكنها اجتمعت في كونها تيارات تتبنى أيديولوجيات شاملة، تضع الهوية ضمن برنامجها، ولا تكتفي بالسياسة والاقتصاد، ما جعلها "طوائف" أو "قبائل" أكثر منها تيارات سياسية برامجية.

وإضافة لظروف النشأة، ثمة عوامل أخرى ساهمت في تشكل الإسلاميين على صورة "طائفة" في العقود الأولى الستة بعد التأسيس، على الرغم من أن المؤسس للجماعة الأكبر الأستاذ حسن البنا تنبه بكتاباته بشكل واضح إلى فكرة "عالمية" الإسلام. وأهم هذه العوامل: الواقع السياسي، والاستبداد، والملاحقة الأمنية، و"شمولية" الفكرة، و"طهورية" البدايات، وازدهار أدبيات "المحنة".

امتلكت هذه "الطائفة" أفكارا سياسية واقتصادية واجتماعية واحدة، وامتلكت إضافة إلى ذلك رموزا مشتركة، شملت أحيانا اللباس والمظهر وطريقة الحوار، وشملت شخصيات تاريخية وتاريخا مشتركا، وفنا وأدبيات مشتركة.

لم تكن هذه المركزية لـ"أبو مازن" وأناشيده "كرمز لطائفة" مرتبطة بكلماته، بل بالظروف والأسباب التي ذكرناها آنفا. فعلى الرغم من أن بعض أعماله ركزت فعلا على "محنة" الإسلاميين، فإن كثيرا من كلمات أناشيده حملت حسّا عالميا، ومعاني إنسانية عابرة للحدود، انطلقت من فهمه لعالمية وإنسانية الإسلام
كان "أبو مازن" واحدا من أهم الرموز المشتركة للإسلاميين في الجانب الفني والأدبي، واستطاع بذلك أن يكون عابرا للحدود، إذ أصبح معبّرا عن الإسلاميين حول العالم حتى من غير العرب، ومس وجدانهم من أقصى شرق الأرض إلى أقصى مغربها.

لم تكن هذه المركزية لـ"أبو مازن" وأناشيده "كرمز لطائفة" مرتبطة بكلماته، بل بالظروف والأسباب التي ذكرناها آنفا. فعلى الرغم من أن بعض أعماله ركزت فعلا على "محنة" الإسلاميين، فإن كثيرا من كلمات أناشيده حملت حسّا عالميا، ومعاني إنسانية عابرة للحدود، انطلقت من فهمه لعالمية وإنسانية الإسلام. يبدو هذا واضحا في كلمات أناشيد الأطفال وفي المنوعات مثل "اليوم عيد"، وفي الأناشيد التي تتحدث عن عالمية الإسلام وتاريخ وطموحات المسلمين المستقبلية بعيدا عن صراعات ومحنة "الإسلاميين"، إضافة إلى مقدمة "ملحمة الدعوة" التي يشير "أبو مازن" فيها إلى المستبدين كأعداء "للسلام والحرية والإنسانية".

 

من "الطائفة" إلى الأمة

مع منتصف الثمانينيات بدأت التجارب السياسية بما فيها من انتصارات وهزائم بتحويل التيار الإسلامي لشيء آخر يختلف عن إخوان العقود السابقة، ويبدو هذا التغير واضحا في خطابهم السياسي في عدد من الدول العربية، وهو خطاب يتحدث عن الإسلاميين كجزء من أمة، وليس كطائفة منهم، ويطرح أفكارا وبرامج سياسية تدرك الواقع الذي صنعته الدولة الحديثة، وتدرك في نفس الوقت عالمية الأفكار الإسلامية. قد يكون هذا التوجه تعرض للانكفاء بعد الملاحقة والسحق والإقصاء الذي يعاني منه الإسلاميون في كل المنطقة العربية منذ انقلاب السيسي في مصر، ولكنه انكفاء لا ينهي التوجه، مع الأخذ بعين الاعتبار أن ضعف مركزية الجماعة الأم وتحول كثير من أبنائها لأفراد ينتمون لتيار فكري أكثر من انتمائهم لجماعة منظمة حديدية يساهم في تعزيز شعورهم بأنهم جزء من "أمة" لا "طائفة".

تسابق الإسلاميون لرثائه، ورثاء جزء من تاريخهم في نفس الوقت، وهو ما ساهم في إعادة صورة "الطائفة" في خيال بعض أبناء التيار، ولكنها صورة لحظية "متخيلة" باهتة، ستنحيها التغيرات الجذرية التي صنعتها تجارب الحركات الإسلامية، بأخطائها وصوابها، عبر عقود طويلة
مع الإعلان عن وفاة "أبو مازن"، بدا واضحا من تعليقات الرثاء في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، أن من يعرفون هذا المنشد المبدع والإنساني والحركي -في نفس الوقت- هم فقط أبناء التيار الإسلامي ومن حولهم إضافة إلى الباحثين المهتمين بهذا التيار. تسابق الإسلاميون لرثائه، ورثاء جزء من تاريخهم في نفس الوقت، وهو ما ساهم في إعادة صورة "الطائفة" في خيال بعض أبناء التيار، ولكنها صورة لحظية "متخيلة" باهتة، ستنحيها التغيرات الجذرية التي صنعتها تجارب الحركات الإسلامية، بأخطائها وصوابها، عبر عقود طويلة.

يستطيع الإسلاميون بدلا من استرجاع هذه الصورة المرتبطة بظرف تاريخي؛ أن يستثمروا الملامح الإنسانية في أناشيد ذلك الشاب اليافع من مطلع السبعينيات، لعلها تشكل فرصة لتثبيت صورة الإسلاميين الحقيقية كجزء من الأمة، لا طائفة معزولة عنهم. ومن الممكن استخدام أناشيد "أبو مازن" وإعادة توزيعها ونشرها بهذه الروح، لتجعله رمزا أدبيا إنسانيا وإسلاميا، كما يستحق، لا مجرد رمز حركي لـ"طائفة"!

………..

نقلا عن "عربي 21"