«الربا» بين موقفي أردوغان والسيسي.. مقارنة كاشفة

- ‎فيتقارير

في شهر نوفمبر 2021م، تدهورت قيمة الليرة التركية إلى مستويات حادة أثرت على مستويات المعيشة في البلاد، لكن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان رفض مجددًا أي "تسوية" بشأن مستوى معدلات الفائدة الرئيسية (الربا)، رغم أن تراجع الليرة عزاه خبراء ومتخصصون إلى عدة أسباب من بينها سلسلة من التخفيضات لأسعار الفائدة الرئيسية التي قررها الرئيس التركي حيث تراجعت قيمة الليرة في 2021 إلى نحو 40% من قيمتها. ورغم ذلك أكد الرئيس التركي خلال عودته من زيارة إلى تركمانستان على رفضه لرفع نسبة الفائدة (الربا) بقوله: "لم أدافع قط ولا أدافع ولن أدافع أبدا عن رفع أسعار الفائدة الرئيسية"،  ثم أضاف مشددا: "أرفض أي تسوية".

على النقيض من موقف الرئيس التركي نجد أن نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي يعاني من إسهال مزمن في ملف رفع معدلات الفائدة؛ فكلما زادت معدلات التضخم وتآكلت قيمة الجنيه أمام الدولار، يلجأ البنك المركزي المصري على الفور إلى رفع معدلات الفائدة، على أمل أن يؤدي ذلك إلى حلحلة المشاكل المزمنة. وآخر قرارات البنك المركزي الإثنين 30 مارس 2023م برفع أسعار الفائدة بنحو 2%،  وبذلك تصبح مصر من أكثر الدول رفعا للفائدة (الربا)، لتصل إلى 23% كمتوسط عائد على الأذون المصرية.

فلماذا يرفض أردوغان الربا ممثلا في رفع معدلات الفائدة؟

أولا، أردوغان ينطلق   من ثوابت دينية حتى إن لم يصرح بذلك؛ وهو  على يقين كامل بأن (الربا) المعروف برفع أسعار الفائدة هو حرام شرعا، ومدمر لاقتصاد الدولة، ويجعل المال محصورا بين فئة من الأغنياء دون الفقراء. والقرآن يؤكد على ذلك { أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا}. بل إن الله حذر المرابين بأنه سيشن عليهم حربا شاملة { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (278) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}. ولذلك نجد أن تركيا تسمح بوجود بنوك إسلامية معروفة باسم «بنوك المشاركة» والتي لا تتعامل بآلية الربا وأسعار الفائدة الثابتة، ورغم أن هذه البنوك لا تزال محدودة إلا أن التجربة في بدايتها  والمخطط أن تكون بديلا للنظام المصرفي الحالي خلال السنوات المقبلة، والهدف حاليا هو تقييم التجربة وتصويبها قبل عملية التعميم المحتمل في المستقبل. والأرقام تشير إلى أن حصة الخدمات المصرفية الإسلامية من إجمالي الأصول المصرفية داخل تركيا بلغت 7.1% في نهاية 2020. ومن هنا لا يجب النظر إلى مهاجمة أردوغان سعر الفائدة العالي على أنه ينبع من منطق ديني بحت، بل من منطق اقتصادي ومالي أيضاً.

ثانيا، ينطلق أردوغان أيضا في موقفه الرافض للربا ورفع معدلات الفائدة، من منطلقات اقتصادية مؤثرة؛ فزيادة الفائدة (الربا) تزيد أعباء الدين العام، باعتبار أن الحكومات هي أكبر المقترضين من البنوك، وفي حال زيادة تلك الأعباء فإنها تستقطع المليارات من مخصصات بنود أخرى، مثل التعليم والصحة والإنفاق على البنية التحتية. ويكفي أن نعلم أن مصر تتحمل حاليا نحو 600 مليار جنيه أعباء إضافية على بند خدمة الديون بسبب رفع الربا نحو 10% زيادة بداية من مارس 2022 حتى مارس 2023م. وهي الأرقام التي ستظهر على بنود موازنة العام المقبل (2023/2024).

ثالثا، يرفض أردوغان الربا  ورفع معدلات الفائدة لأن المستفيدين منها عادة هم أصحاب الأموال الساخنة وبنوك الاستثمار العالمية التي تقترض من بنوكها الغربية بسعر فائدة قد يقل عن 1%. وبعدها تذهب تلك الأموال إلى تركيا وغيرها من الدول الناشئة لشراء أدوات دين حكومية مثل السندات وأذون الخزانة، والحصول على أسعار فائدة تصل حاليا إلى 15% وقبلها إلى نحو 20% وربما 24%، كما جرى في تركيا  سنة 2018م عندما قرر البنك المركزي زيادة السعر إلى هذا المستوى القياسي. وبالتالي يريد أردوغان قطع الطريق على أصحاب الأموال الساخنة في اغتراف مليارات الدولارات من اقتصاد وخزانة بلاده، من دون قيمة مضافة أو توفير فرصة عمل واحدة، بل يشكل هؤلاء ضغطاً شديداً على الليرة التركية في حال حدوث خروج مفاجئ عقب وقوع أي خطر، سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً. وهو ما حدث في مصر في (2011 ـ و2015 ـ 2020 ــ 2022).

رابعا، يطالب الرئيس التركي بخفض سعر الفائدة لتحقيق أهداف اقتصادية متعددة، منها توفير أموال رخيصة للقطاع الخاص من شركات ومستثمرين ورجال أعمال تساعد في تأسيس المشروعات الجديدة وتدشين خطوط الإنتاج، وبالتالي خلق فرص عمل لملايين الشباب، والحد من البطالة، ودعم القطاع الإنتاجي، سواء الصناعي والزراعي أو التصديري، وهذا كله إضافة للاقتصاد القومي. كذلك فإن منح البنوك مودعيها سعر فائدة كبيراً يدفع أصحاب الأموال إلى الارتكان لهذا السعر المغري وعدم التوجه للاستثمار المباشر، وبالتالي الحصول على عائد مرتفع مقابل التعرض لمخاطر أقل، وبالتالي هنا يتم حرمان المجتمع من ملايين المشروعات التي يمكن تأسيسها مباشرة بأموال رخيصة التكلفة.

خامسا، أردوغان ضد رفع سعر الفائدة في بلاده، ليس لأسباب دينية فقط، بل لأسباب تتعلق بمستوى أسعار الفائدة السائدة في الاقتصاديات الكبرى، ومنها اقتصاد مجموعة العشرين، فأسعار الفائدة في بعض دولها قد تقل عن 1% وأحياناً قريبة من الصفر. وبالتالي فالرئيس التركي محق في استغرابه من وصول أسعار الفائدة في بلاده إلى نحو 20%، في الوقت الذي تدور في الاقتصاديات الكبرى الأخرى حول مستوى الربع في المائة وربما الصفر، كما هو الحال في الولايات المتحدة ومنطقة اليورو واليابان قبل الأزمة الأخيرة (كورونا والحرب الروسية الأوكرانية) حيث تصل سعر الفائدة في الولايات المتحدة حاليا نحو 5% فقط.

ورغم كل هذه العوامل والأسباب، إلا أن الرئيس التركي لم لم يطالب بتصفير سعر الفائدة، أي جعلها صفراً، وإلا كان طالب بإغلاق البنوك التجارية في بلاده التي تتاجر في الأموال والنقود بيعاً وشراء، إذ تتلقى البنوك الودائع وتمنح القروض مقابل إعطاء المودع سعر فائدة عالياً حالياً، أو الحصول على أسعار فائدة من المقترض يتم تحديدها طبقاً لاعتبارات، منها الأسعار السائدة لدى البنك المركزي، وتكلفة الأموال، ودرجة مخاطر العميل وقدرته على السداد وغيرها.

 

الأسعار هنا وهناك

من العجيب حقا أن نسبة التضخم في تركيا في 2022 بلغت نحو 80%، بينما وصلت في مصر إلى نحو 21.5% فقط؛ ورغم ذلك فإن الأسعار في تركيا أقل من مثيلتها في مصر؛ رغم أن تركيا تعرضت لزلزال مدمر فجر الإثنين 6 فبراير 2023م أسفر عن مقتل نحو (40 ألفا) وتدمير نحو 10% من اقتصادها القومي. وحسب نائب رئيس الغرفة التجارية المصرية، أحمد شيحة، فإن الأسعار في مصر  تفوق مثيلتها في تركيا. ويبدي شيحة حزنه على ما ألت إليه الأوضاع في مصر؛ مندهشا من وصول سعر طبق البيض إلى 138 جنيها، بما يمثل ضعف ثمنه في تركيا. ويتعجب شيحة ـ  في تصريحات لصحيفة العربي الجديد اللندنية ـ من وصول سعر الدجاجة محليا إلى 200 جنيه في المتوسط، بينما تباع في تركيا بسعر يعادل 70 جنيها، وطبق البيض 60 جنيها، وكيلو اللحم 120 جنيها في ظل تضخم بلغ 80% سنويا بينما يباع سعر اللحم في مصر بنحو250 إلى 300 جنيه.  وكان الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء قد زعم أن التضخم في مصر  ارتفع إلى نحو 21.5% فقط خلال سنة 2022م التي شهدت تراجع قيمة الجنيه  إلى النصف تقريبا. فكيف تكون الأسعار في تركيا أقل بكثير من مصر رغم أن التضخم الرسمي في مصر أقل بكثير من التضخم في تركيا حسب أرقام سنة 2022م  الرسمية في كلا البلدين؟!

الخلاصة أن تجربة حزب العدالة والتنمية في تركيا هي تجربة قائمة على تنمية القطاع الإنتاجي، لا القطاع الريعي، باعتبار أنّ القطاع الأول يحقق عدة أهداف، أبرزها توفير فرص عمل وزيادة الصادرات والحد من الواردات، وبالتالي الحد أيضا من نزيف مليارات الدولارات التي تذهب للخارج لاستيراد سلع ومنتجات يمكن إنتاجها محليا في حال توفّر أموال رخيصة وطاقة بتكلفة مقبولة. ومن هنا فإن الفائدة العالية تدعم الاقتصاد الريعي، لا الإنتاجي. وأسعار الفائدة العالية تسبب التضخم وتعرقل خطط تركيا في احداث قفزة في الصادرات، وأن أردوغان توقع انخفاض التضخم قبل الانتخابات المقرر إجراؤها في مايو 2023م.