مات يوم أمس رجلٌ ممن يوالون الظالمين، وكان جاهلاً فاجرًا متحمّسًا للمستبدين، لا يتورع عن أذى عباد الله الصالحين رغم فضلهم عليه وإحسانهم إليه، مات كما يموت كلُّ الخلق، لكنه –لخيبته- لم يكن يدرك هذه الحقيقة، فعاش بائسًا ومات ذليلاً، ولم يجد من يشيِّعه أو يترحّم عليه، حتى أقرباؤه لم يتحمسوا له وربما وجدوا فى موته راحة من اللمز والمعايرة.
وما أكثر هذه «الأشكال» اليوم فى زمن علا فيه صوت الباطل، وأمسك الفُسَّاق بمقود الرأى العام يشيعون الإفك وينشرون ضلالهم ودجلهم، رأيناهم يطلقون الشائعات، ويكذبون ويتحرون الكذب، ويرمون الناس بأدوائهم، ويعظِّمون اللئيم ويهينون العظيم، ولا يترددون فى إعلان الشىء ونقيضه، وقد اجتمعت فيهم خلال أهل العيب والمنقصة.
ولا زال الموت يتخطف كل يوم منهم واحدًا فما وُعظ الآخرون، ولا زال أسيادهم شياطين الإنس يلقون بهم فى غياهب السجون أو يخرجونهم من البلاد أو يستغنون عن خدماتهم ويغضبون عليهم فما اعتبر غيرهم، بل العجيب أنهم يزيدون من جرعة نذالتهم وخستهم باتهام البرءاء وشتم الشرفاء والادعاء على أولياء الله الصالحين، مثلهم كمثل المرأة التى سقطت فى وحل البغاء فصعُب عليها الرجوع إلى شاطئ الفضيلة فازدادت فُجرًا وربما فاخرتْ بفسقها.
أطلق أحدهم يومًا جملة «نكاح الجهاد» على أطهر نساء اليوم، ولم يتردد فى التنقل بين القنوات ناشرًا هذا الإفك المبين، فرأينا كرامة الأولياء فيه، وكان الجزاء فوريًّا ومن جنس العمل؛ إذ انتشرت «فيديوهات» لابنته وهى تمارس الزنى مع أحد الأشقياء، ثم اتُهم هو بتلقى رشوة قُدرت بأربعة ملايين جنيه، وألبسه محاموه النقاب فى جلسات المحاكمة لئلا تصوره الكاميرات، وكان ادعى أيضًا أن «بديع» ضُبط لابسًا النقاب، ثم قُبض على ابنه الكبير فى قضية سطو مسلح على سيارة نقل أموال وحُكم عليه بعشر سنين، ثم انتحر ابنه الصغير الذى أدمن مشاهدة لعبة «الحوت الأزرق»، وهو يعيش الآن خارج البلاد طريدًا مطلوبًا للعدالة.. ولم ينته قدرُ الله بعدُ فى هؤلاء الأنذال.
حكى لى أحدهم، وهو من قرابتى، وكان قد وصل إلى منصب كبير فى حزب من أحزابهم؛ أنه لما بدأ فى نقدهم واستنكار ما يفعلونه تكاثروا عليه، واستغلوا تلك «السقطة» منه وأكثروا الوشاية عليه، وهو وسط موبوء بمساوئ الأخلاق، فنصحه كبير على علاقة طيبة به أن يترك بلده والحزب ويرحل إلى مدينة أخرى، ولأنه يثق فى هذا «الكبير» فقد غادر بالفعل بلدته وترك بيته وأملاكه؛ ليتأكد بعدها أنهم كانوا قد أعدوا العدة لتوريطه واتهامه بأنه «عضو فى الإخوان».
غدًا سيموت هؤلاء الأنذال، وكل الأنذال، وسيرث أبناؤهم هذا الإرث المخزى، وسيعلمون أن آباءهم كانوا مطية لعصابات الحكم فألزموهم خدمتهم بألسنتهم، واللسان فتنة، وكم من دم أهرق بسبب كلمة، وكم من بيوت خربت بسبب هؤلاء الجهلة الذين تقمصوا أدوار سحرة فرعون غير أن الآخيرين أسلموا لله رب العالمين لما رأوا آياته، أما هؤلاء فلا عقل لهم، إنما ينظرون تحت أقدامهم وينتظرون مصلحة اللحظة؛ من ثم فإن موتهم هو أقرب لموت رأس النفاق (ابن سلول) الذى مات فلم ينعه أحد ولم يأسف عليه قريب أو بعيد.
إن الحر لا يقبل الدنية، ولا يتصور أن يكون ذنبًا تابعًا لا رأى له، ومن يفعل ذلك فهو مختلّ العقل شاذ الفكر، ومن ظن أن اتّباع المستبد قد يأتى إليه بنفع فقد باع آخرته بدنيا غيره، فإن مجرد الركون إليهم يجر على صاحبه عذاب النار، وهو من الآمال الكاذبة، والأمانى الخادعة (ألا أيها المغرور ما لك تلعبُ… تؤملُ آمالاً وموتُك أقربُ)؛ فإن الأسياد لن يغنوا عنه من الله شيئًا، ولن يغنى عنه مالٌ حصَّله ولا شهرةٌ صنعها ولا ولدٌ أعقبه (لم تغن عن هرمز يومًا خزائنُه.. والخلدَ قد حاولتْ عادٌ فما خلدوا)، والموت عند الحر أهون من البقاء فى مثل هذه التبعية الذليلة (شُمُّ الأنوف يرون الموت مكرمة… حين الحياة لها بالذل إقبال).
وإن هلاك أحد الظالمين أو أحد أشياعهم، وربما لم يكن هذا الهلاك متوقعًا أو جاءهم من حيث لم يحتسبوا –إنما هو درس للمحبطين اليائسين والمستعجلين الذين لا يوقنون؛ فإن أجل هؤلاء آت آت ولو لم نره، وقدر الله فيهم وعقابه إياهم فى الدنيا نافذ نافذ وإن لم نعاينه: (فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ أوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ) [الزخرف: 41، 42]، (فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ) [غافر: 77]، وسوف يمنُّ الله على المؤمنين ويجعلهم هم الأعلون، الأحق بالريادة والظهور (وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ) [القصص: 5].