الداعية الحق

- ‎فيمقالات

الداعية الحق هو من يعرِّى الكفر والإلحاد، ويفضح الفساد، ويحارب الاستبداد، ويدافع عن المقهورين، وينحاز لقضايا الأمة، ولا يكون ذلك إلا بالصدق؛ (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا) [الأحزاب: 7، 8]، وبالصبر فإن الصبر رباط وضمانة للعلو والتمكين؛ (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة: 24]، وبالمجاهدة فإنها تهدى السبيل وتمنع الزيغ وتعبِّد الطريق نحو الله؛ (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت: 69].

وتلك الصفات هى السرُّ فيما نراه من استمساك طوائف من الدعاة بحبل الله المتين، واتباعهم صراطه المستقيم، وأخذهم كتاب الله بقوة رغم ما يطالهم من أذى وما يقع عليهم من تنكيل ونقمة، وهؤلاء هم أتباع محمد ﷺ، وورثة يوسف الصديق الذى أظهر الثبات رغم طول سجنه وقسوة سجَّانه، قال: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي…) [يوسف: 33]، لا ييأسون إذا يئس الناس إذ يعلمون أن اليأس صنو الكفر، ولا يستكينون أو يُستضعفون، ولا يخشون أحدًا إلا الله؛ (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا) [الأحزاب: 39].

وفى المقابل رأينا كيف انتكس أحد الأحزاب الإسلامية، وقد خسر شعبيته وأساء إلى فصيله على امتداد جغرافيته؛ ذلك أنه انحرفت بوصلته، واستعجل قادته، وترخَّص فيما لا تجوز فيه الرخصة، ومثله كثيرون على الساحة من الأفراد والجماعات والأحزاب ممن قصرت نظرتهم وضاق صبرهم فنكصوا وفرَّطوا وماعوا حتى لم تعد بينهم وبين العلمانيين فروق.

ولعل الفهم هو رأس الأمر فى حماية الداعية من التخليط والوقوع فى شَرَكِ التلوُّن والذوبان؛ ما جعل الإمام «حسن البنا» يصدِّره قائمة أركان دعوته سابقًا بذلك الإخلاص والعمل والتجرد وباقى الأركان العشرة؛ مستدلًّا بقول الله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ) [محمد: 19]؛ حيث قدم الله العلم والفقه على العبادة والذكر. 

وكلما فقه الداعية ازداد ثباتًا ورسوخًا، وصار صاحب رأى وموقف، وحكم على الأمور أحكامًا صائبة لا تخرج عن رأى الشرع وحدِّ الدين، وفى الفهم قوة ودرء للعجز والحمق؛ «المؤمن القوى خيرٌ وأحبُّ إلى الله، وفى كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز».

ومخاطر التلوُّن الدعوى لا تُحصى، فإنه يضيِّع ثمار الدعوة السابقة، ويشوِّه الدين، ويفقد الناس ثقتهم فى كل داعية، بل يفقدهم الثقة فى الشرع ذاته، ويؤسس لبلبلة فى الصف لا تنتهى، وخلق جدالات عقيمة لا طائل من ورائها، وقد رأينا آثار ذلك شيعًا وأحزابًا متناحرة كلها تدعى الحقيقة والعصمة من الذلل، والأصل فى الدين أن يجتمع الصف، ويتوحد الرأى، ويكون الكلُّ طوع أمر الوحى، وكلٌّ منهم مرآة أخيه؛ (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا) [الكهف: 28].

وشتان بين الرخصة والميوعة؛ فأما الأولى فأجازها الشرع، وأخذ بها الأنبياء والمرسلون، كالتورية فى مخاطبة المجرمين، ودرء المفسدة عوضًا عن جلب المصلحة من غير تبديل أو تحريف. أما الميوعة فهى تبرير السوء؛ بخفض الجناح للمنافقين، وغض الطرف عن كبائر الظالمين، ومسايرة المفسدين، فتكون العَجَلَةُ التى هى منشأ كل شرٍّ؛ إذ تنقل الداعية من حال العزم والرشد إلى حال الفوضى والضياع، وتعميه عن رؤية الحق والصواب، وتستدرجه إلى ساح الهوى ومراد النفس، من ثمَّ تفقده فضيلة الشورى، فيكون التنازع والفشل وذهاب الريح.

والمواقف فاضحة، ولكمْ غربلت المحن والأحداث الدعاة؛ فمنهم من قوَّته تلك المحن وشدَّت أزره، ومنهم من نكص على عقبيه خسر الدنيا والآخرة؛ ما جعل المصلحين يوصون بأمور هى منقذ الداعية عند الأزمات، وهاديته عند الشداد والملمَّات فلا يضل ولا يخزى؛ منها الامتثال لأمر الله فى كل حال؛ (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ…) [الحجر: 94]، وعدم المساومة؛ (الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ.. ) [يوسف: 51]، والتجرد من الهوى والشهوة؛ (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [يوسف: 108].