من أهم مكاسب تجربة (الثورة والانقلاب) هو حجم الوعي الكبير بطبيعة المعادلة القائمة في مصر محليا وإقليميا، وأن القرارات العليا داخل الجيش المصري مختطفة لحساب حفنة قليلة من الجنرالات المتحكمين في مفاصل المؤسسة العسكرية والذين ينعمون بامتيازات واسعة ويحققون من وراء هذه الامتيازات ثروات طائلة ؛ فمصر تفتقر كل يوم وهم يزدادون غنى وثراء.
باختطاف المؤسسة العسكرية وتوظيفها لحساب هؤلاء الجنرالات تم اختطاف مصر كلها بناء على مركزية وضع المؤسسة العسكرية في نظام الحكم المصري منذ انقلاب 23 يوليو 1952م؛ حيث بات كبار القادة يتعاملون مع مصر باعتبارها إقطاعية عسكرية خالصة لهم من دون الشعب. وعبر اتفاقية كامب ديفيد 1979م، جرت تحولات ضخمة داخل المؤسسة العسكرية؛ وتمكن الأمريكان عبر المساعدات العسكرية (المعونة الأمريكية) من بسط نفوذهم بشكل واسع داخل الصفوف العليا للجيش، وترتب على ذلك تحويل الجيش إلى مؤسسة بيزنس واقتصاد وانشغل كبار قادته بأمور البيزنس والصفقات حتى كون الجيش إمبراطورية اقتصادية ضخمة مترامية الأطراف.
عبر نفوذهم الواسع تمكن الأمريكان من استخدام الجيش في الإجهاز على ثورة يناير وإجهاض المسار الديمقراطي عبر التخطيط لانقلاب 3 يوليو. الذي أراد به الأمريكان حماية مصالحهم وخاصة أمن الكيان الصهيوني، وأراد به كبار الجنرالات حماية نفوذهم السياسي وحماية إمبراطوريتهم الاقتصادية المرامية الأطراف. وبالتالي فإن حكم الديكتاتور عبدالفتاح السيسي منذ الانقلاب العسكري (2013 /2023م) يمثل في جوهرة احتلالا بالوكالة لخدمة الأجندة الأمريكية والإسرائيلية وحماية مصالح كبار الجنرالات. ومن أجل تحرير مصر واستقلال قرارها الوطني يجب أولا تحرير الجيش من الوصاية المفروضة عليه من كبار القادة والجنرالات التابعين لواشنطن وتل أبيب (جنرالات كامب ديفيد). وإذا تحرر الجيش من هذه الوصاية تحررت مصر من التبعية وتخلصت من احتلال الوكالة، واستقل قرارها الوطني.
هذه الخلاصة لا تمنع مطلقا من رصد وتحليل أهم أسباب انقلاب الجيش على الرئيس المنتخب ونسف المسار الديمقراطي وتهميش الهوية الإسلامية للبلاد.
السبب الأول، هو مركزية دور المؤسسة العسكرية في حكم مصر؛ فالجيش يتعامل مع مصر منذ انقلاب 23 يوليو 1952م على أنها إقطاعية عسكرية خالصة لا يسمح مطلقا بأن يكون على رأس الجمهورية مدني، وعندما جرى ذلك بفعل ضغوط ثورة يناير من أجل نقل السلطة من المجلس العسكري إلى حكومة مدنية منتخبة، وتم انتخاب الدكتور محمد مرسي رئيسا للجمهورية في يونيو 2012م أمام مرشح الجيش والدولة العميقة الفريق أحمد شفيق؛ جرى التنكيل به والانتقام منه ومن أنصاره على النحو المؤلم الذي يعلمه الجميع، حورب مرسي وأفكاره الإسلامية بضراوة أثناء فترة الدعاية، وقبل أن يتسلم السلطة، وافتعلت الدولة العميقة المشاكل وأثارت الفوضى والفلتان الأمني، ثم جرى تشويه الرئيس عبر حملة دعاية سوداء موسعة شارك فيها جميع وسائل الإعلام التابعة للجيش ورجال أعمال مبارك، وجرى الانقلاب عليه واعتقاله والتنكيل به وبأسرته على نحو واسع، ليكون عبرة لأي مدني يفكر في حكم مصر مجددا حتى لقي ربه محتسبا شهيدا بعد ست سنوات في سجون العسكر في 17 يونيو 2019م.
السبب الثاني هو حماية بيزنس المؤسسة العسكري سواء فيما يتعلق بسرية موازنة الجيش التي تكتب رقما واحدا في الموازنة العامة للدولة دون أي مراقبة من أي جهة، أو بالنسبة لشركات الجيش ومشروعاته والتي تقدر بين (40 إلى 60%) من جملة الاقتصاد المصري، وهي المشروعات التي تجاوزت حدود الاقتصاد الموجه لخدمة وحدات الجيش في أوقات السلم والحرب والتي لا اعتراض عليها مطلقا ما دامت تعزز من قدرة المؤسسة العسكرية على توفير احتياجاتها، لكن المشكلة أن اقتصاد الجيش تحول إلى إمبراطورية مترامية الأطراف وتحولت إلى أكبر محتكر في كثير من قطاعات الاقتصاد المدنية وامتدت بنفوذها إلى السيطرة المطلقة على معظم أوجه النشاط التجاري والاقتصادي. وقد رأى الجنرالات أن الثورة والمسار الديمقراطي يمثلان تهديدا مباشرا لهذه الإمبراطورية، وقد أكد اللواء محمود نصر، مساعد وزير الدفاع للشؤون المالية، في مؤتمر صحفي عقد يوم 27 مارس 2012م، عن هذه المخاوف مشددا بعبارات تهديد «أموال الجيش ليست من أموال الدولة ولن نسمح للدولة بالتدخل فيها؛ لأنها ستخربها وسنقاتل دفاعاً عن مشروعاتنا، وهذه معركة لن نتركها، والعرق الذي ظللنا 30 سنة لن نتركه لأحد آخر يدمره، ولن نسمح لغيرنا أياً كان بالاقتراب من مشروعات القوات المسلحة». وهي التصريحات التي تؤكد أن الجيش دولة داخل الدولة. او بمعنى أدق فإن الجيش يحتل مصر فعليا لحساب مصالح حفنة من الجنرالات ومصالح رعاتهم في الخارج.
السبب الثالث أن الجيش يعطي لديمومة علاقاته مع الولايات المتحدة الأمريكية والاحتلال الإسرائيلي أولوية مطلقة على تأسيس علاقة ثقة متبادلة وقوية مع الشعب المصري، حتى بات كبار القادة بالمؤسسة العسكرية يرون في تطوير العلاقة مع “إسرائيل” وتعزيز التحالف معها في جميع الملفات السياسية والاقتصادية ، وحماية المصالح الأمريكية في مصر والمنطقة بات من ثوابت الأمن القومي المصري؛ وبالتالي فإن تصورات السيسي وغيره من كبار الجنرالات تقوم على اعتبار أن أي تحولات سياسية أو اجتماعية تحدث في مصر تفضي إلى زعزعة هذه العلاقة، أو تضعفها ؛ هي في حد ذاتها تمثل تهديدا للأمن القومي المصري؛ وعليه فإن السيسي وكبار الجنرالات تعاملوا مع ثورة يناير وإقامة نظام ديمقراطي في مصر باعتباره مسارا شاذا يهدد الأمن القومي المصري؛ بمقدار ما يهدد العلاقة مع إسرائيل وأمريكا. هذا التطابق في الرؤى والتصورات بين كبار قادة الجيش في مصر مع رؤى وتصورات “إسرائيل” والولايات المتحدة الأمريكية، إنما يمثل انعكاسا لمدى الاختراق الأمريكي الإسرائيلي للصفوف العليا في الجيش المصري منذ اتفاقية «كامب ديفيد» 1979م، حيث يتلقى الجيش مساعدات عسكرية من وشنطن قدرها “1.3” مليار دولار سنويا، كما يتلقى معظم القادة الكبار في الجيش دورات تدريبة ومحاضرات في الولايات المتحدة منذ ثلاثة عقود ليس فقط للتعرف على أفكارهم وتوجهاتهم بل لتشكيل عقليتهم بما يضمن حماية المصالح الأمريكية في مصر والمنطقة.