اعتمد نظام الدكتاتور عبدالفتاح السيسي على سياسات الترغيب والترهيب لإخضاع المؤسسة القضائية والهيئات القضائية المختلفة، ومن باب الترغيب وفي ظل الإجراءات الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها الشعب المصري، وانخفاض قيمة العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي بنحو 80% عما كان عليه قبل الانقلاب العسكري في يوليو 2013م، وارتفاع أسعار السلع، والخدمات الأساسية بنسب تتفاوت من 600 إلى 1200%، بقيت طبقات محددة تحافظ على امتيازاتها، ومن ضمنهم القضاة، الذين حرص السيسي، على ضمان ولاء القسم الأكبر منهم، بمنحهم صلاحيات واسعة، ومكافآت كبيرة وامتيازات ضخمة. ولتحقيق ذلك حافظ السيسي على تخصيص ميزانيات غير مراقبة وغير مفصّلة للجهات القضائية المختلفة، إلى جانب ميزانية وزارة العدل، التي تفيض كل عام عن احتياجاتها الأساسية والإضافية، فتكون الفرصة مواتية لمنح القضاة منحاً وحوافز بمناسبة أو بدون، تحت مسميات مختلفة، كـ"حوافز الجهود غير العادية، وحوافز الإنجاز، ومِنح رمضان والعيدين"، إلى جانب رفع الحد الأدنى للراتب عند التعيين لأول مرة في سلك القضاء إلى نحو 9 آلاف جنيه مصري، وهو ما يضمن منزلة اجتماعية مميزة للقضاة الشباب، وزيادة مطّردة في الأجور للقضاة الأكبر سنا. كما قرر مجلس القضاء الأعلى في 25 يونيو 2015، زيادة رواتب أعضاء النيابة العامة، والقضاة بمختلف درجاتهم بنسبة 30 بالمئة، أما في يوليو 2018، فقد أقر وزير المالية محمد معيط، زيادة رواتب قضاة الاستئناف 5 آلاف جنيه تطبّق بأثر رجعي.
القضاة يطالبون بزيادة المرتبات
ورغم هذه الامتيازات الهائلة مقارنة بالأغلبية الساحقة من الشعب المصري التي تئن من الغلاء الفاحش والانهيار الحاد في مستويات المعيشة، إلا أن رئيس نادي القضاة المستشار محمد عبدالمحسن تقدم بشكوى إلى رئيس محكمة النقض ومجلس القضاء الأعلى السابق المستشار محمد عيد محجوب قبل تقاعده في 30 يونيو الماضي "2023م"، لبلوغه السن القانونية، وصدور قرار جمهوري بتعيين المستشار حسني عبد اللطيف بدلاً منه رغم أنه كان الثامن في ترتيب الأقدمية بما يخالف نصوص الدستور والقانون.
وطالب رئيس نادي القضاة في خطابه "بضرورة بحث الظروف الاقتصادية للقضاة، بعد تدهورها"؛ مبررا ذلك بأن القضاة "يعانون اقتصادياً"، ورصد خطاب رئيس النادي "أزمات مالية وحالات إنسانية حرجة تعرّض لها بعض القضاة، نتيجة الظروف الاقتصادية الطاحنة التي تمر بها الدولة المصرية". وطالب بضرورة العمل على زيادة بدل الانتقال المقرر للقضاة والذي يقدر بمبلغ 90 جنيهاً (نحو 2.9 دولار) لأعلى الدرجات وفقاً للثابت بمفردات مرتباتهم". وأضاف: «تأتي مشروعية هذا الطلب بل حتميته، لعدم زيادة هذا البدل منذ آخر تعديل بقرار جمهوري عام 1985، وتماشياً مع سياسة الدولة العادلة مع الموظفين المنتدبين للعمل بالعاصمة الإدارية بمنحهم مبلغ 2000 جنيه (64.75 دولاراً) كحد أدنى بدل انتقال، فما بالنا بقضاة مصر الذين يجوبون أرجاء الوطن لأداء عملهم في ظل عدم تطبيق قاعدة التوطين؟».
ويبرر القضاة مطالبهم بالزيادة بأنهم فئة من فئات الشعب تعرضت لتدهور مستويات المعيشة بعد خفض قيمة العملة للنصف خلال سنة 2022م؛ لأنهم من أصحاب الدخول الثابتة؛ بالإضافة إلى ذلك فإن القضاة من أصحاب المهن الخاصة التي يجب أن توفر لهم الدولة مستويات معيشة جيدة؛ فالقاضي لا يستطيع التجارة ولا المشاركة في تجارة ولا يستطيع أن يمتهن مهنة أخرى غير القضاء طالما هو في وظيفته، فمن المفترض أن يبتعد القاضي عن أي شبهة قد تؤثر على أحكامه".
6 زيادات للقضاة في 8 سنوات
وردا على مطالب نادي القضاة، نشرت صحيفة "العربي الجديد" اللندنية وثائق رسمية رصد من خلالها ومن خلال مصادر قضائية بارزة، إقرار سلسلة من الزيادات في الرواتب والمكافآت المختلفة للقضاة في مصر، بدأت من عام 2014 عقب مسرحية الانتخابات الرئاسية التي أجريت في هذا العام.
وخلال الفترة من 2014 إلى 2022م، حصل القضاة على زيادات ومكافآت مالية كلفت ميزانية الدولة أكثر من 22 مليار جنيه (نحو 710 ملايين دولار)، وحدثت زيادات كبيرة ومضاعفة للمرتبات، حيث تمت زيادتها 6 مرات خلال السنوات الثماني الماضية، بخلاف صرف مكافآت مالية اعتيادية وتحت بند (جهود غير عادية) سنوياً".
وحصل القضاة في مصر في عام 2014، على 3 مكافآت استثنائية، أحدها تحت بند "جهود غير عادية"، بخلاف المكافآت الاعتيادية الأخرى في المناسبات والأعياد المختلفة. وأكد القاضي السابق محمد سليمان، أن مضمون بيان نادي القضاة حول الأوضاع المتدهورة للقضاة غير صحيح، مشيراً إلى أنه في عهد السيسي حدثت زيادات متلاحقة ومتضاعفة في سنوات قليلة.
وأوضح سليمان أنه بالنسبة للمكافآت الاعتيادية التي تصرف للقضاة بشكل دوري في المناسبات كانت في أواخر عهد الرئيس الراحل حسني مبارك، قيمتها ألفا جنيه (75 دولاراً)، ومع بداية عهد السيسي قام بمضاعفتها إلى 4 آلاف جنيه (129.5 دولاراً)، وتم مضاعفتها مجدداً إلى 6 آلاف جنيه (194.3 دولاراً)، ثم زيادتها في نهاية عام 2020 إلى 8 آلاف جنيه (259 دولاراً)، ثم زادت أخيرا لتصل تقريباً إلى 10 آلاف جنيه (323.7 دولاراً).
وتعد رواتب القضاة بين أعلى الفئات في مصر، إلى جانب الجيش والشرطة، فضلاً عن امتيازات أخرى تجعل من الالتحاق بالسلك القضائي أملاً لخريجي كليات الحقوق. والمعروف في مصر أن أبناء القضاة هم الأكثر حظاً في الالتحاق بوظائف آبائهم. في المقابل، يشكو العاملون بالمحاكم من غير القضاة من فجوة كبيرة في الرواتب والمكافآت والبدلات بينهم وبين القضاة، دفعت بعضهم للتقدم بطلبات لجسر الفجوة، حيث تتماثل الأعباء الوظيفية بين العاملين بالقضاء فيما تتفاوت الدخول بشدة.
وفي يناير 2019م، أصدر رئيس محكمة النقض ورئيس مجلس القضاء الأعلى حينها المستشار مجدي أبو العلا بيانا يرفض فيه تناول الشأن القضائي على صفحات الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي؛ معتبراً أن تناول أمور القضاء من غير القضاة "ينال من هيبة القضاء واستقلاله". وذلك ردا على نص خطاب مسرب من رئيس نادي القضاة يطالب فيه بزيادة مرتبات القضاة. وقال مجلس القضاء الأعلى، رداً على الخطاب المسرب، إن "ما تداولته منصات التواصل الاجتماعي يخالف قرارات المجلس المتواترة، في شأن منع تداول الأمور الخاصة بشؤون القضاة في وسائل الإعلام المختلفة، الأمر الذي قرر معه المجلس إحالة تلك المخالفات للتحقيق مع المخالفين، لكونها تنال من هيبة القضاء". وحسب الأرقام المُعلنة في هذا الوقت حين كان سعر صرف الدولار يساوي (15.7) جنيها فقط، فإن النائب العام المصري كان يتقاضى 110 آلاف جنيه شهرياً، ورئيس مجلس القضاء الأعلى 90 ألف جنيه، في حين تراوح رواتب القضاة بين 16 و30 ألف جنيه شهرياً بخلاف الحوافز والبدلات والمكافآت التي تضاعف الرقم النهائي للمرتب مرتين أو ثلاثة، وتراوح رواتب وكلاء النيابة بين 13 و15 ألف جنيه شهرياً بخلاف الحوافز والبدلات والمكافآت التي تضاعف الرقم النهائي للمرتب مرتين أو ثلاثة، علاوة على 5 آلاف جنيه "مجهودات إضافية"، ومكافآت موسمية بواقع 16 ألف جنيه، علماً بأن الحد الأدنى للأجور في مصر لم يكن يتجاوز 1200 جنيه شهرياً. وإلى جانب المرتبات المجزية يحظى القضاة بامتيازات أخرى في الحصول على الفلل والوحدات السكنية والشاليهات والمصايف والعلاج على نفقة الدولة وغير ذلك من الامتيازات الواسعة التي يحصل عليها كثير من فئات الشعب.
