في لطمة جديدة على وجوه المصريين خرجت حكومة السيسي تتذرع بارتفاع مستويات الديون، وأنها باتت تعيق قدرتها على الاستثمار في الصحة والتعليم، ما يعني أن الشكوى من انهيار التعليم والصحة وهما أهم مرفقين في الدولة، باتت لا تسمن ولا تغني من جوع، في نفس الوقت الذي لم تمنع فيه الديون من استكمال العاصمة الجديدة وناطحات العلمين والساحل الشمالي، وشراء الطائرات الرئاسية وبناء الكباري والمزيد من القصور الرئاسية.
وفي رسالة تنصل من المسئولية مررها مركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء في حكومة الانقلاب إلى الشعب، قال: إن "ارتفاع مستويات الديون بشكل يعيق التقدم في تحقيق العديد من الأهداف، وكان إجمالي الدين الخارجي للدول النامية أعلى بنسبة 15% في عام 2022 مما كان عليه في عام 2019، قبل انتشار الجائحة، وفي ضوء ذلك؛ فإن تصاعد الدين العام يشكل عقبة أمام تحقيق أهداف التنمية المستدامة لأنه يقوض قدرة الحكومات على الاستثمار في الخدمات الأساسية، مثل الرعاية الصحية والتعليم".
وفي الخطوط العريضة، تشبة تجربة مصر في مارثون الاستدانة من صندوق النقد الدولي ، تجربة الأرجنتين مع الفارق أن من يحكم مصر طغمة من العسكريين الفسدة جاؤوا على ظهور دبابات الانقلاب، إذ قبل سنوات طويلة، كانت الأرجنتين أرض الفرص الاستثمارية في العالم، ومن أكبر الاقتصادات في قارة أميركا اللاتينية، وواحدة من أبرز الدول التي راهن كثيرون على تحولها إلى دولة ذات اقتصاد واعد وقوي ومستدام، خاصة مع تحقيقها معدلات نمو حقيقية.
كان مواطنو الدولة الأكثر ثراء بين الأمريكيين اللاتينيين، حيث متوسط دخل مرتفع ومعدلات ادخار عالية، ومع ذلك الدخل كان المواطن ينعم بالرفاهية والخدمات المتطورة في القطاعات الحيوية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية والصناعة.
وقبل سنوات طويلة احتلت الأرجنتين المرتبة العاشرة في قائمة أغنى الاقتصادات في العالم، بعد دول مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا، بل كانت تسبق اقتصادات قوية مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
كانت الدولة اللاتينية من بين أكبر مصدري الأغذية في العالم، حيث تملك صناعات زراعية وحيوانية واسعة، وهذه القاعدة وفرت لأسواق الدولة الاستقرار خاصة في السلع الزراعية.
وفي السنوات الطويلة التي سبقت اندلاع الحرب العالمية الأولى في عام 1914، نما الناتج المحلي الإجمالي للأرجنتين بمعدل 6% سنويا، وهو أسرع معدل نمو في العالم، في ذلك الوقت الذي كانت تعاني فيه اقتصادات كبرى من الركود والمخاطر الجيوسياسية.
كانت الدولة اللاتينية من أكثر الدول جذبا للمهاجرين من القارة العجوز أوروبا، والذين توافدوا إليها بحثا عن أي فرصة عمل في الأراضي الزراعية الخصبة، حيث كان النشاط الزراعي والحيواني يقود النشاط الاقتصادي في البلاد، بل جذبت أيدي عاملة من العديد من دول العالم بما فيها الولايات المتحدة.
كان الرهان كبير على تلك الدولة القابعة في قارة أمريكا اللاتينية في قيادة الأسواق الناشئة، خاصة أن لديها الإمكانيات التي تساعدها في تحقيق ذلك الهدف، ثروات ضخمة من النفط والغاز وصادرات قوية وقطاع زراعي، وأيد عاملة رخيصة وموقع استراتيجي وغيره.
لكن سنة بعد أخرى تحولت الأرجنتين إلى أرض الفرص الضائعة، إلى دولة ضائعة ماليا وهشة اقتصاديا واجتماعيا، معرضة للإفلاس مرة أخرى.
تخضع للدائنين الدوليين، لا استقلال لها في قرارها الاقتصادي وربما السياسي، فالدائنون هم من يفرضون شروطهم على الجميع، وإلا ترك الدولة للتعثر المالي.
وسبب هذا الضياع هو الفساد والتوسع الكبير في الاقتراض الخارجي خاصة من صندوق النقد الدولي، والذي اقترضت منه الأرجنتين عدة شرائح إنقاذ آخرها قرض بقيمة 44 مليار دولار تم الاتفاق عليها في إبريل الماضي، وقبلها تم الاتفاق على أكبر قرض في تاريخ المؤسسة المالية بقيمة 50 مليار دولار في منتصف عام 2018.
اليوم، باتت الأرجنتين ساحة للأموال الساخنة، ومجال خصب للمضاربين المحليين والدوليين للمضاربة في عملة البيزو، والتي شهدت انهيارات كبيرة ومتواصلة في السنوات الأخيرة أحدثها خفضه قيمتها اليوم الثلاثاء بنسبة 18%، دفعت بمعدل غلاء الأسعار لمستويات قياسية، حيث يتجاوز معدل التضخم حاليا 118%.
ساعد في تعمق ذلك الوضع المالي المزري معاناة البلاد المستمرة من فاتورة ضخمة لأعباء الديون، وشح مزمن في العملات الأجنبية لا سيما الدولار، والانقلابات العسكرية.
الصورة الآن قاتمة داخل الدولة اللاتينية التي باعت أصولها الاستراتيجية لسداد أعباء الديون الخارجية، ورغم ذلك تعرضت الدولة للإفلاس عدة مرات، وأفلتت منه بأعجوبة قبل أسابيع، وقبلها باعت 40% من الشركات المملوكة للدولة و90% من البنوك.
ورغم حصولها على إيرادات ضخمة من عملية البيع فاقت 49 مليار دولار، لكن تلك الأموال لم تنفق على المواطن والخدمات، بل على سداد أعباء الديون، وبالتالي ذهبت للمستثمرين الأجانب وحائزي السندات الدولية والمضاربين وأصحاب الأموال الساخنة.
ومع حلول أعباء دين تسارع الأرجنتين للحصول على قروض جديدة لسداد المستحق منها.
ببساطة باتت الأرجنتين دولة مدمنة للاقتراض، فهي أكبر مقترض في تاريخ صندوق النقد الدولي، ونموذج صارخ للدول التي تعتمد على الخارج في الحصول على نقد أجنبي، دولة أصابها التدمير الكلي سواء للاقتصاد أو المواطن أو الأسواق بمساعدة الدائنين.
ويضغط صندوق النقد الدولي على الدول المتعثرة في السداد أو تلك التي على وشك التخلف عن السداد بقاعدة التخلف عن السداد على أساس 90 يوما من تاريخ الاستحقاق.
ومع مضي الوقت، عرف الاقتصاد العالمي ظاهرة الائتمان الرخيص، وفي ظل غياب نظم الرقابة الحقيقية بالعديد من الدول العربية، عادت أزمة المديونية العامة لتطل برأسها بما تحمله من مخاطر تهدد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، عبر الضغوط على الحيز المالي لميزانيات هذه الدول، بما يؤدي لتقليص الإنفاق على الاستثمارات العامة، أو الإنفاق على التعليم والصحة والبنية الأساسية بالمعدلات المطلوبة.
الدول العربية غير النفطية، بمستوييها، منخفضة ومتوسطة الدخل، أمام مشكلة حقيقية، لأن معظم هذه الاقتصادية ريعية، ولا تمتلك ناتجا محليا قويا يمكنها من سداد أعباء ديونها، كما تغيب عنها الرقابة بكافة صورها لإدارة الدين العام وليست مصر عن ذلك ببعيد.