بقلم/ إبراهيم نوار
يمكن أن يتساهل صندوق النقد مع حكومة مصر في كل شيء إلا زيادة الضرائب، ورفع أسعار الوقود، وتخفيض دعم السلع الغذائية للفقراء، هذه هي المحرمات الثلاثة، أو الخطوط الحمراء، غير المسموح بتجاوزها، فيما يسمى «برنامج الإصلاح الاقتصادي» الذي وضعه صندوق النقد الدولي لتسير على هديه السياسة الاقتصادية للحكومة في مصر وتلتزم بها لتحقيق التوازن المحاسبي المطلوب للقوائم المالية الحكومية، وعلى أساس هذه المحرمات الثلاثة تجري مراجعة لقرض الصندوق الذي تبلغ قيمته 8 مليارات دولار، بعد زيادته في آذار/مارس الماضي من 3 مليارات فقط، كان قد تم الاتفاق عليها في نهاية عام 2022.
وكان وراء زيادة قيمة القرض رغبة في إنقاذ الاقتصاد من كارثة مالية يمكن أن تتعرض لها مصر في حال تخلفها عن سداد فوائد وأقساط الديون المستحقة عليها، ومع أن الحكومة تشكو من تأثير الصدمات الخارجية، الناتجة عن الحروب في الشرق الأوسط، وهي تحيط بها من كل جانب، فإن زيادة القرض بقيمة 5 مليارات دولار في حقيقة الأمر كانت نوعا من الاستجابة لمساعدة مصر على التعامل مع تلك الصدمات، لكن يبدو أن الأثر المالي للصدمات كان أكبر من التقديرات، حيث ارتفعت تكلفة استيراد الوقود، وانخفضت إيرادات قناة السويس والسياحة، ومع ضغوط الصندوق على الحكومة للوفاء بالشروط التي وافقت عليها عند توقيع اتفاق القرض، وجدت الحكومة صعوبات كبيرة، منذ حل موعد المراجعة الأولى لقرض الصندوق في مارس 2023؛ فتأجلت تلك المراجعة أكثر من مرة، حتى تم الاتفاق على دمج المراجعتين الأولى والثانية وانجازهما معا في اذار/مارس 2024، وكانت صفقة «رأس الحكمة» مع دولة الإمارات العامل الأساسي لإجراء ونجاح المراجعة، وموافقة الصندوق على زيادة قيمة القرض بأكثر من مرة ونصف، وتيسير حصول حكومة مصر على حزمة تمويل دولية كبيرة يشارك فيها البنك الدولي، وبنك الإعمار الأوروبي، وبنك التنمية الأفريقي، ودول خليجية.
وبعد أن سارت الأمور على الطريق المتفق عليه حتى نهاية يوليو من العام الحالي، حيث جرت المراجعة الثالثة للقرض بنجاح، بدأت الحكومة تشعر انها لن تستطيع تقديم ما يرضي الصندوق، في محاور أساسية ترتبط ببرنامج بيع الأصول المملوكة للحكومة، وضبط قواعد حصولها على السيولة، وإدخال الإصلاحات المطلوبة على نظام المحاسبة المالية للدولة، وطلب الصندوق رفع أسعار الوقود إلى ما يعادل استرداد التكاليف بحلول نهاية عام 2025، وبناء على ذلك تم طلب تأجيل المراجعة من شهر سبتمبر إلى الشهر التالي، ثم إلى الشهر الحالي، ومن المنتظر أن تكون المفاوضات بين حكومة مصر ووفد خبراء الصندوق صعبة، رغم اللقاءات التي عقدتها مديرة الصندوق على مستوى القمة في مصر في بداية الشهر الحالي.
ما جرى في لقاءات القمة بين مصر والصندوق سيظل سرا في الغرف التي تمت فيها اللقاءات، لكن نتائج القمة سوف تتجلى في عدد من الإجراءات والتعديلات التشريعية التي تلتقي مع شروط الصندوق، وقد صاغ الصندوق موقفه في ثلاث لاءات رئيسية هي: لا لزيادة قيمة القرض، لا للإعفاء من السداد، لا لتعديل الشروط، ومع ذلك فإنه نظرا لأن مصر، من وجهة نظر الصندوق أبلت بلاء حسنا في تخفيض التضخم وزيادة الفائض الأولى في الميزانية، فإنه سوف يظهر قدرا كافيا من المرونة في تطبيق الشروط خصوصا فيما يتعلق بأولويات الجدول الزمني لتنفيذ الإجراءات، ومرونة سعر الصرف، وتقليل دور الدولة في النشاط الاقتصادي، والحدود القصوى للدين العام، ومعايير جودة المعلومات.
هذه المرونة تمهد الطريق لحصول الحكومة على شريحة جديدة من قرض الصندوق، بقيمة تقرب من 1.3 مليار دولار، ما يساعد البنك المركزي على تدبير احتياجات سداد بعض الالتزامات الخارجية، ومنها سداد فوائد ديون خارجية، وتمويل الواردات بدون الضغط على احتياطي العملات الأجنبية. كذلك فإن المراجعة قد تسفر، بشكل غير مباشر، عن تيسير حصول مصر على قرض من صندوق «الصلابة والاستدامة» وهو أداة التمويل التي ابتكرها صندوق النقد الدولي لمساعدة الدول الأعضاء على مواجهة الأزمات الطارئة، الدولة العربية الوحيدة التي استفادت من هذه النافذة التمويلية الجديدة حتى الآن هي المغرب، بعد زلزال مراكش في العام الماضي، وتتميز قروض صندوق الصلابة والاستدامة بانخفاص تكلفتها وطول أجل سدادها.
توصيات المراجعة الثالثة
طبقا لتقرير المراجعة الثالثة، الذي أقره مجلس مديري الصندوق في 29 يوليو 2024 فإن ظروف الاقتصاد الكلي بدأت في التحسن منذ الموافقة على المراجعتين الأولى والثانية للبرنامج في مارس 2024. وسجل التقرير أن الضغوط التضخمية تنحسر تدريجيا، وأنه تم القضاء على نقص النقد الأجنبي، كما تم تحقيق الأهداف المالية، بما في ذلك ما يتعلق بتحديد سقف الإنفاق على مشاريع البنية التحتية الكبيرة، وحدد التقرير الأولويات التالية للمراجعة اللاحقة:
أولا، الحفاظ على نظام مرن لسعر الصرف ونظام تحرير للصرف الأجنبي لتجنب تراكم الاختلالات الخارجية. الترجمة العملية لذلك هي إجراء تخفيضات تدريجية في سعر الصرف، كلما تعرضت العملة المحلية لضغوط قوية، وبناء احتياطي أكبر للنقد الأجنبي كلما كانت العملة قوية، لزيادة قدرة البنك المركزي على ممارسة دوره في السوق، وتوسيع هامش الحركة للسياسة النقدية والمالية.
ثانيا، التأكيد على الحاجة إلى نهج قائم على البيانات الدقيقة من قبل البنك المركزي لخفض التضخم وتوقعات مساره، وفي هذا السياق شدد التقرير على أهمية جهود ضبط أوضاع المالية العامة، بوضع الدين العام على مسار هبوطي حاسم، وضمان استمرار توافر الموارد لتلبية احتياجات الإنفاق الحيوية لمساعدة الأسر المصرية، بما في ذلك على الصحة والتعليم.
ثالثا، إيلاء اهتمام خاص لتعزيز تعبئة الموارد والإيرادات المحلية، واحتواء مخاطر المالية العامة الناجمة عن عدم التوازن في مالية قطاع الطاقة، ما يسمح بإتاحة هامش مالي لزيادة الإنفاق الاجتماعي دعما للفئات الضعيفة.
رابعا، ضرورة بذل جهود أكبر لتنفيذ سياسة ملكية الدولة، وتشمل التدابير المطلوبة لتحقيق ذلك تسريع برنامج انسحاب الدولة من الاستثمارات، ومتابعة الإصلاحات لتبسيط اللوائح التنظيمية للأعمال لإنشاء شركات جديدة، وتسريع ممارسات تيسير التجارة، وخلق «مجال متكافئ» يتجنب الممارسات التنافسية غير العادلة من قبل الشركات المملوكة للدولة، خامسا، أولوية تعزيز صلابة القطاع المالي وممارسات الحوكمة والمنافسة في القطاع المصرفي. وتشير هذه التوصية بشكل غير مباشر إلى ضرورة تقليص دور الدولة في القطاع المصرفي، وطرح مزيد من الحصص المملوكة لها في البنوك للبيع في السوق، هذه التدابير، كما يقول التقرير، ضرورية لتوجيه مصر نحو النمو الذي يقوده القطاع الخاص والذي يمكن أن يولد الوظائف والفرص للجميع.
ويعتقد صندوق النقد الدولي أن الإصلاحات التي تعزز الإيرادات الضريبية، وتقدم استراتيجية أكثر قوة لإدارة الديون، وتجلب موارد إضافية لخفض الديون، تساعد على إتاحة هامش أوسع لتمويل مزيد من الإنفاق الإنتاجي والاجتماعي المستهدف، ويرى أن رفع أسعار الطاقة إلى مستويات استرداد تكاليفها، بما في ذلك أسعار الوقود بالتجزئة بحلول نهاية عام 2025 أمر ضروري لدعم توفير الطاقة بشكل سلس للسكان والحد من الاختلالات في القطاع، وقد أعلنت الحكومة على لسان رئيسها أكثر من مرة أن أسعار الوقود ستواصل الارتفاع حتى ذلك الوقت، ما يعني التزاما منها بشروط الصندوق.
الضرائب
تتضمن شروط صندوق النقد الدولي ضرورة أن تقوم الدولة بتحصيل موارد إضافية تعادل تقريبا قيمة القرض الذي يقدمه للدولة المدينة، هذه القاعدة في سياسة الصندوق تنطبق على مصر كغيرها من الدول المدينة، وقد وافق الصندوق، في سياق الاستفادة من دورة التيسير النقدي في الولايات المتحدة، على تخفيض رسوم وفوائد خدمة الدين للدول الأعضاء، بما في ذلك الدول المثقلة بالديون مثل مصر، التي تجاوزت حصتها في الاستدانة، وطبقا لحسابات الصندوق فإن مصر سوف تستفيد من تعديل الرسوم والفوائد بحوالي 800 مليون دولار، حيث تنخفض تكلفة الاقتراض من الصندوق بنحو 108.5 مليون وحدة حقوق سحب خاصة، أي ما يعادل نحو 144 مليون دولار سنويا، وهو ما يمثل تخفيضًا بنسبة 48.4 في المئة في الرسوم الإضافية، هذا الوفر في التكلفة يمثل إحدى المزايا التي سيقدمها الصندوق خلال جولة المراجعة الرابعة للقرض التي تجري الآن في القاهرة في سياق التيسيرات التي يقدمها لمصر لمساعدتها على تنفيذ شروط الصندوق وتحقيق الأهداف المبتغاة من القرض.
وطبقا لبرنامج الإصلاح الذي ينتهي في منتصف تشرين الأول/أكتوبر 2026 تستهدف مصر تخفيض نسبة الدين الحكومي إلى ما دون 80 في المئة من الناتج المحلي. ومن المفترض أن يحقق البرنامج الأهداف المحددة له بنسبة نجاح كبيرة بنهاية تلك المدة، وتتضمن الأهداف أيضا تخفيض التضخم إلى ما يتراوح بين 7 – 9 في المئة، وألا يتجاوز العجز في الحساب الجاري نسبة 3 في المئة من الناتج، وليس هناك هدف كمي متفق عليه بالنسبة لتخفيض التدخل المباشر للدولة في النشاط الاقتصادي، وكانت نسبة الدين العام للناتج المحلي وصلت إلى 95.7 في المئة في نهاية حزيران/يونيو من العام الماضي، مقابل 80.9 في المئة بعد الانتهاء من تنفيذ برنامج الإصلاح السابق (2016- 2019)، وطالما أن أحد الأهداف الكمية الأساسية لبرنامج الصندوق هو تخفيض نسبة الدين العام إلى أقل من 80 في المئة بعد عامين، فإن الحكومة ستكون ملزمة بتسريع معدلات زيادة الإيرادات وضبط النفقات وتقليل الدين العام حتى تحقق هذا الهدف خلال أقل من 24 شهرا من الآن، لتخفيض الدين العام بنسبة 10 في المئة من الناتج على الأقل، أي ما يعادل 5 في المئة من الناتج سنويا. ويتضمن تخفيض النفقات الأولية حسب برنامج الصندوق تخفيض نصيب الدعم والأجور من المصروفات. هذه النسبة الواجب تخفيضها تزيد كثيرا عن تلك التي تضمنها برنامج الإصلاح السابق عام 2016 التي كانت 3.5 في المئة فقط خلال فترة البرنامج ككل. ومن الضروري الإشارة إلى أن صفقة «رأس الحكمة» وما رافقها من تمويل مالي وفرت للميزانية ما يزيد عن 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، ومن ثم فإنها أسهمت في تخفيض قيمة الدين العام في السنة المالية المنتهية في حزيران/يونيو الماضي بمورد غير متكرر، لن يظهر في ميزانية العام الحالي، وهو ما يلقي بعبء إضافي على تدابير تخفيض الدين العام التي تشمل زيادة الإيرادات الضريبية وتخفيض الإنفاق على الدعم والأجور كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي.
المعضلة الكبرى التي تواجهها الحكومة هنا هي أن الصندوق في المراجعة الرابعة يضغط بشدة من أجل تعزيز حزمة الحماية الاجتماعية اللازمة للتخفيف عن غير القادرين، الذين انضمت إليهم قطاعات مهمة من الطبقة الوسطى، وفي مقابل هذا الضغط فإن الحكومة ليست لديها الموارد الكافية لتمويل مثل هذه الحزمة، في مثل هذه الحالة فإنه ليس أمام الحكومة إلا أن تزيد الضرائب، أو أن تقترض، أو أن تسحب على المكشوف من البنك المركزي. ونظرا لأن الصندوق يراقب عن قرب السحب على المكشوف ويطالب بتقييده، فإن أسهل الطرق لزيادة قدرتها على تمويل حزمة المساندة الاجتماعية لغير القادرين، هي التوسع في فرض الرسوم والضرائب على غير القادرين، أو كما يقول المصريون «من دقنه وافتل له» وقد شهدنا هذا التوجه محل التنفيذ بالفعل مع الموازنة الجديدة للسنة المالية الحالية.
وتشير الأرقام الرسمية لوزارة المالية عن الربع الأول من السنة المالية الحالية إلى أن الإيرادات الضريبية بلغت 413.3 مليار جنيه، مقابل 285 مليارا في الفترة المقابلة من السنة المالية السابقة، بنسبة زيادة تبلغ 45 في المئة، وكان المحرك الرئيسي لهذه الزيادة هو ارتفاع متحصلات ضريبة القيمة المضافة بنسبة 44.6 في المئة لتسجل حصيلة بقيمة 185 مليار جنيه، وكان أهم مصادر الزيادة في ضريبة القيمة المضافة هو ارتفاع حصيلة الضريبة على السلع بنسبة 73.1 في المئة لتحقق 110 مليارات جنيه تقريبا، ويمكن وصف ضريبة القيمة المضافة بأنها «ضريبة شريرة» يدفعها المستهلك الغني والفقير على السواء بالنسبة نفسها، ومن ثم فإنها تستنزف من دخل الفقير أكثر نسبيا مما تستهلك من دخل الغني، أحد المصادر الأخرى المهمة في زيادة الإيرادات الضريبية هي الضريبة على الدخل. وسوف نلاحظ من أرقام الضرائب على الدخل أن أقوى محركات الزيادة التي تحققت في الحصيلة تمثلت في الضريبة على المرتبات المحلية، حيث زادت بنسبة 21 في المئة لتصل إلى 27.1 مليار جنيه (من دون احتساب الرسوم وضرائب الدمغة والاستقطاعات الإدارية المختلفة)، وتمثل حصيلة الضريبة على المرتبات وحدها حوالي 27 في المئة من اجمالي حصيلة الضرائب على الدخل التي بلغت خلال الربع الأول من السنة المالية 100.5 مليار جنيه، حسب التقرير المالي الشهري الأخير لوزارة المالية، التقييم النهائي للسياسة الضريبية للحكومة منذ بدأت تطبيق ما أطلق عليه «برنامج الإصلاح» يشير إلى أن الحكومة تتوسع بشكل غير مسبوق في زيادة الضرائب ورسوم الجباية، إلى درجة أن حصيلة الضرائب في الربع الأول من السنة الحالية تعادل ما يقرب من ضعف ما كانت عليه في الفترة المناظرة قبل البدء في تطبيق البرنامج، ذلك أنه قبل البدء في التطبيق كانت حصيلة الضرائب حوالي 211 مليار جنيه، ارتفعت في العام الأول إلى 285 مليار جنيه، وبلغت في الربع الأول من السنة المالية الحالية 413.3 مليار جنيه.
المفارقة التي تكشف عنها متابعة الأداء المالي للحكومة هي أن مدفوعات الفائدة على الديون تزيد عن قيمة الإيرادات الكلية للضرائب، فقد بلغت مدفوعات الفائدة على الديون في الربع الأول من السنة المالية الحالية 451.8 مليار جنيه بما يعادل 109.3 في المئة من الإيرادات الكلية للضرائب، هذا يعني أن كل الضرائب المحصلة على جميع الأنشطة الاقتصادية لا تكفي لسداد مدفوعات الفوائد على الديون، وإن الدولة ربما تحتاج إلى الاقتراض من أجل سد الفجوة التي تعادل 9 في المئة تقريبا، وتمثل فوائد الديون في التحليل الاقتصادي جزءا لا يتجزأ من تكلفة خدمة الديون، ومن ثم فإن ضغوط الصندوق تتحول عمليا إلى ضغوط أشد من الحكومة على دافعي الضرائب والمستهلكين، الأمر الذي يزيد من حدة المعاناة الاقتصادية للمواطن، والتدهور الفعلي لاقتصاد الدولة، نظرا لانعدام قدرتها على تحقيق التوازن المالي من دون الاستدانة.