بقلم/ قطب العربي
“كل الحب والتقدير لشركتنا المتحدة للإعلام ورجالها، وقياداتها، الشركة الأكبر في الوطن العربي، وحصن الإعلام المصري ولو كره الكارهون” نص موحد نشره على صفحات التواصل إعلاميو وموظفو الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، وهي الكيان الذي يضم العديد من الصحف والقنوات والمواقع الإخبارية وشركات الإنتاج التلفزيوني والسينمائي.. الخ، هي باختصار منظومة إعلام السيسي التي حلم بها، وحسد عبد الناصر على امتلاكها من قبله، هي منظومة جديدة ومتنوعة ومتكاملة، تعتمد عليها السلطة الحالية بشكل أساسي بعد فقدانها الأمل في إعلام الدولة التقليدي (قنوات التلفزيون الرسمي والإذاعات والصحف ووكالة الأنباء الرسمية).
هذه المنظومة الجديدة التي بدأ بناؤها منذ العام ٢٠١٦ إما بتأسيس قنوات جديدة؛ مثل شبكة دي إم سي التي أنشأ النظام لها شركة دي ميديا، وكان اللواء عباس كامل -مدير مكتب السيسي حينها، رئيس المخابرات المقال لاحقا- أحد مؤسسيها وفق عقد التأسيس الرسمي، وكان مخططا لها أن تضم عشر قنوات متنوعة بين السياسي والاقتصادي والاجتماعي والرياضي والترفيهي والديني … إلخ، لكنها لم تكتمل بسبب حالة ارتباك وقصور مالي، أو بتأسيس شركات أخرى لشراء قنوات قائمة من رجال الأعمال مثل شبكة قنوات الحياة (صاحبها السيد البدوي؛ رجل الأعمال ورئيس حزب الوفد السابق) وشبكة قنوات سي بي سي (وصاحبها رجل الأعمال محمد الأمين الذي عاش غامضا ومات ميتة غامضة بعد حبس غامض)، وشبكة قنوات المحور (وصاحبها رجل الأعمال الدكتور حسن راتب الذي أدخل السجن وخرج بعد قضاء عقوبته)، وشبكة أون تي في (وصاحبها رجل الأعمال نجيب ساويرس) وشبكة قنوات دريم (وصاحبها رجل الأعمال أحمد بهجت)، كما تم الاستيلاء على صحيفة المصري اليوم من رجل الأعمال صلاح دياب، وتم الاستيلاء أيضا على معظم الصحف والمواقع الإخبارية المملوكة لرجال الأعمال، وتم ذلك بمبالغ زهيدة مع تهديدات علنية أو مبطنة لأصحاب تلك القنوات والصحف في حال امتناعهم عن قبول عروض الاستيلاء.
اختيار الإعلاميين والموظفين للعمل في هذه الشركة تم بطريقة عسكرية في البداية، حيث كان يتم استدعاء البعض للعمل وفق مواصفات خاصة، دون أن يتقدم هو بطلب لذلك، ولاحقا يجري عمل فحوص أمنية لمن يعلمون في قنوات وصحف تلك الشركة للتأكد من خلوهم من أمراض الانتماءات السياسية، لاحقا تم جمع كل الشركات التي أسسها النظام والقنوات والصحف التي استولى عليها تحت مظلة شركة جديدة هي الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، والمملوكة لجهاز المخابرات المصري، يستعيضون عن ذلك بمسمى جهة سيادية، وحتى اختيار الإعلاميين والموظفين للعمل في هذه الشركة تم بطريقة عسكرية في البداية، حيث كان يتم استدعاء البعض للعمل وفق مواصفات خاصة، دون أن يتقدم هو بطلب لذلك، ولاحقا يجري عمل فحوص أمنية لمن يعلمون في قنوات وصحف تلك الشركة للتأكد من خلوهم من أمراض الانتماءات السياسية.
نعود إلى قصة البوست الموحد الذي ظهر في توقيت واحد، وبصيغة واحدة من إعلاميي وموظفي الشركة المتحدة، والذي يكيلون فيه المديح لمؤسستهم، ويصفونها بأنها الأكبر في الوطن العربي (متجاوزين شبكة الجزيرة، وشبكة إم بي سي، وشبكة روتانا، وغيرها من الشبكات الإعلامية العربية واسعة الانتشار والتأثير) كما يصفونها بأنها حصن الوطن، وهو مصطلح عسكري ينبئ عمن كتبه ووزعه عليهم. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما السر وراء هذه الحملة الدعائية المفاجئة للشركة المتحدة؟ لعل متابعة بعض التطورات في المجال الإعلامي وربطها، ببعضها يمكننا من التوصل للسر.
الحدث الأبرز المرتبط بملف الإعلام هو إقالة رئيس المخابرات السابق اللواء عباس كامل، وهو المؤسس الأول لهذه المنظومة الإعلامية الجديدة بتكليف من السيسي، فهو (عباس) الذي أنشأ شركة دي ميديا للإعلام، وهو الذي أشرف على إنشاء قنوات جديدة، وهو الذي أشرف على عملية الاستيلاء على القنوات والصحف من رجال الأعمال، وبالمحصلة هو الذي أنشأ هذه الإمبراطورية الإعلامية، وكان ساعده الأيمن هو العقيد أحمد شعبان في توجيه الصحفيين والإعلاميين عبر التواصل المباشر، أو عبر رسائل نصية فيما اصطلح عليها رسائل السامسونج.
كان الحدث المهم الثاني إذن هو إقالة العقيد أحمد شعبان، دون الإعلان رسميا عن خليفته، ما أوجد حالة من الفوضى، ليأتي الحدث الثالث وهو ظهور اسمي المستشار وزير العدل السابق عمر مروان، والمستشار الإعلامي للسيسي اللواء محسن عبد النبي، كمسئولين جديدين عن الملف الإعلامي، وخاصة إعلام الشركة المتحدة، وليحدث المزيد من التوتر بين الإعلاميين في الشركة، وخاصة الذين ارتبطوا بالعقيد أحمد شعبان، حيث إن من الطبيعي أن يختار المشرف الجديد رجاله، ولا يعتمد على رجال من سبقه. وقد كشفت بعض التسريبات عن الاتجاه للاستغناء عن مذيعين، وإعادة مذيعين اختفوا عن الشاشة مؤخرا في إطار معارك داخلية مكتومة؛ ليس من بينها الخلاف على مستوى أو درجة الحرية الممنوحة للإعلام.
هنا ظهر أيضا تعليق لأحد مقدمي البرامج الحوارية وهو بالأساس محام وليس إعلاميا، وقد كتب على صفحته تعليقا أثار الجدل حتى إن البعض اعتبره سبب الحملة التسويقية الأخيرة للشركة المتحدة عبر الإسكربت الموحد، كتب يقول إن “مقدمي البرامج الحوارية كانوا من وجهة نظر الدولة نظام السيسي أبطال في 30 يونيو، ثم أصبحوا عبئا بعد ذلك، وبعد أن تم تعريضهم لاختبارات وتجارب واختراعات، ممكنة وغير ممكنة، ومعقولة وغير معقولة لدرجة أنه تم حبس أحدهم بسبب إحدى حلقاته، ولم يستطع زملاؤه إدخال الدواء له في الحجز، كما تم وقف برامج معظمهم، ثم تساءل مستنكرا ومستهجنا، هل استطاعت الدولة (يقصد السلطة الحاكمة) توصيل رسالتها للشارع المصري عن طريق المؤتمر الصحفي لرئيس الوزراء كل أربعاء؟”.
يعكس كلام هذا المحامي الإعلامي حالة من الغضب لمن تم أو سيتم الاستغناء عنهم ضمن التغييرات الجديدة، وهو يرى أنه وكل من على شاكلته ساعدوا النظام كثيرا من قبل، وينسى هذا المحامي، أن بدلاءه ومن على شاكلته سيكونون أكثر تطبيلا، لكنهم وجوه جديدة بعد الاحتراق الكامل للوجوه القديمة، وسيحاول من خلالها النظام إيهام نفسه وإيهام الشعب بحدوث تغيير، رغم أنه سيظل تغييرا في الوجوه والقيود وليس السياسات.
ربما أراد إعلاميو “المتحدة” من خلال هذه الحملة التسويقية المفاجئة إثبات أن ولاءهم للشركة أو للمنظومة ذاتها، وليس للعقيد أحمد شعبان، ولأننا بصدد تغييرات شكلية يراد تضخيمها فسوف يكون من بينها كشف العديد من أوجه الفساد المالي داخل هذه المنظومة، وفضح كل من تورطوا فيه، على طريقة “آخر خدمة الغز (العوالم) علقة”، وعلى طريقة خيل الحكومة التي يتم التخلص منها بإطلاق الرصاص عليها حين تصل إلى مرحلة العجز عن الجري.
منذ تم تأسيس هذه المنظومة الإعلامية الجديدة والتي أخذت على عاتقها ترويج (وهْم) الجمهورية الجديدة، كان واضحا أنها منظومة ذات طبيعة خاصة، فلا هي تشبه الإعلام الخاص الذي يصدر عن شركات مساهمة، ولا هي إعلام حزبي مثل ذاك الذي تصدره الأحزاب السياسية، ولا هي إعلام عام مثل التلفزيون الرسمي بقنواته وإذاعاته وشركاته، ومثل المؤسسات الصحفية القومية؛ هذا الوضع الخاص بهدف تجنيبها المساءلة المالية، فليس هناك الجمعية العمومية للمساهمين التي تحاسب إدارات الإعلام الخاص، وليس هناك رقابة للجهاز المركزي للمحاسبات أو هيئة الرقابة الإدارية كما هو الحال بالنسبة للإعلام الحكومي (القومي)، هذه المنظومة الجديدة تتبع بالأساس صندوقا خاصا مملوكا للمخابرات المصرية (صندوق إيجل كابيتال) وهو مثل غيره من صناديق “علي بابا” لا يستطيع أحد خارج الدائرة السيادية مساءلته.
بعد 23 يوليو 1952 صنع النظام الجمهوري الجديد إعلامه الخاص بطريقين، أولهما تأسيس صحيفة معبرة عنه هي صحيفة الجمهورية عام 1954، ووكالة أنباء الشرق الأوسط عام 1955، والإذاعة والتلفزيون سنة 1960، والطريقة الثانية هي تأميم المؤسسات الصحفية العريقة القائمة في ذلك الوقت مثل الأهرام وأخبار اليوم وروز اليوسف ودار الهلال.. الخ؛ عام 1960، وما فعله نظام السيسي في تأسيس منظومته الإعلامية هو استنساخ مشوه لتلك التجربة، فالتأميم في الحالة الأولى نقل أصول المؤسسات الإعلامية لملكية الشعب، وجعلها تحت إشراف هيئات شعبية منتخبة بدءا من الاتحاد القومي، ثم الاتحاد الاشتراكي، وصولا إلى مجلس الشورى، وأخضع ميزانياتها لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات ، وإن كان في تلك الرقابة تساهل خاصة في العقود الأخيرة، أما التأميم الذي تم للقنوات الإعلامية الخاصة في عهد السيسي، فإنه لم ينقل أصولها للشعب، بل إلى صندوق خاص بمؤسسة عسكرية، ولم يخضعها لرقابة المؤسسات الرقابية كما أسلفنا.
رغم الإنفاق الكبير على هذه المنظومة إلا أن شكوى السيسي منها مستمرة، فهي في نظره لم تقم بدورها المنتظر في التسويق لما يعتبره إنجازات كبرى غير مسبوقة، وهي في نظره لم تستطع الوصول للرأي العام، وهي أيضا لم تستطع منافسة القنوات والصحف التي يعتبرها معادية لنظامه. والحقيقة أنها ستظل في هذا المستوى بل ستنحدر أكثر في الفترة المقبلة، ذلك أن الإعلام لا يزدهر إلا في ظل أجواء الحرية، رغم الإنفاق الكبير على هذه المنظومة إلا أن شكوى السيسي منها مستمرة، فهي في نظره لم تقم بدورها المنتظر في التسويق لما يعتبره إنجازات كبرى غير مسبوقة، وهي في نظره لم تستطع الوصول للرأي العام، وهي أيضا لم تستطع منافسة القنوات والصحف التي يعتبرها معادية لنظامه. والحقيقة أنها ستظل في هذا المستوى بل ستنحدر أكثر في الفترة المقبلة، ذلك أن الإعلام لا يزدهر إلا في ظل أجواء الحريةوهو الأمر المفتقد حاليا، وقد فقد الشعب الثقة بهذا الإعلام التعبوي، والذي يعبر عن السلطة وليس الشعب، واتجه المشاهدون للقنوات الفضائية التي تمتلك قدرا كبيرا من الحرية، سواء كانت قنوات عربية وعالمية معروفة مثل الجزيرة وبي بي سي، والحرة، ودويتشة فيلا، أو قنوات المعارضة المصرية في الخارج، وقد رصدت هذا التحول لدى المشاهدين بعض المؤسسات المختصة مثل إبسوس.
يجادل السيسي ورجاله أن الإعلام كان قويا، ومحل ثقة المواطنين أيام عبد الناصر والسادات رغم غياب الحريات، والحقيقة أن كلا الرئيسين السابقين كان يمتلك مشروعا، وكان لكل من هذين المشروعين رجاله في الإعلام المقتنعون به، والمدافعون بإخلاص عنه، كان لعبد الناصر برنامج تنموي واستقلالي اشتراكي، وكان للسادات مشروع انفتاحي، بخلاف أنه صاحب نصر أكتوبر، وصاحب مشروع السلام بغض النظر عن تقييمنا له، بينما لا يوجد للسيسي مشروع واضح، سوى بناء أكبر عاصمة إدارية تحوي أكبر برج في أفريقيا، وأكبر مسجد وأكبر كنيسة، وأعلى ساري علم، وقد طبل إعلامه لهذه المشاريع بما فيه الكفاية، لكن هذا الإعلام وقف عاجزا عن تبرير سياسة النظام في التخلي عن جزيرتين، والفشل في إدارة ملف سد النهضة، والتسبب في أزمة المديونية الخارجية وانهيار قيمة الجنيه، وارتفاع الأسعار، وتراجع دور مصر الإقليمي والعالمي.. إلخ.
ستظل منظومة إعلام المتحدة ومعها باقي الإعلام المصري باستثناءات قليلة في حالة فشل متزايد، وعلى الأرجح سيتصرف النظام بحماقة مع هذا الفشل الذي هو سببه، حيث سيجد في التخلص من الإعلام الرسمي فرصة لجمع مليارات الدولارات من بيع الأصول التي يمتلكها هذا الإعلام، والذي تركه النظام يموت ببطء، كما أنه قد يعرض بعض المؤسسات الإعلامية التابعة للشركة المتحدة نفسها للبيع أيضا بعد تيقنه من فشلها وتحقيقها المزيد من الخسائر، بل قد يستغني عن المنظومة كلها، ليؤسس منظومة جديدة مع هذا الطاقم الجديد المكلف بالملف الإعلامي، لننتظر ونتابع.