المنظر الجمالي، أو ما يُعرف بالهوية البصرية للمدن والقرى المصرية، أصبح في حالة يُرثى لها في زمن الانقلاب الدموي بقيادة عبد الفتاح السيسي، بسبب الانتهاكات المتراكمة، وعدم قيام أجهزة دولة العسكر المعنية بأداء مهامها، وعدم تنفيذ القانون، وانتشار الوساطة والمحسوبية والرشوة، وفساد موظفي الإدارات المحلية، فضلًا عن الثغرات العديدة في قانون المحليات وقوانين البناء، بجانب غياب الرقابة التنفيذية على الأحياء.
هذه الانتهاكات تسببت في حالة غضب بين المصريين وأثارت تساؤلات حول من يشوّه مصر عمدًا؟ وأين الجهاز القومي للتنسيق الحضاري مما يحدث في المناطق الأثرية وتماثيل مصر التاريخية؟ وأين خبراء الآثار والسياحة والعمران؟
ومع تفاقم هذه الأزمة، قرر مصطفى مدبولي، رئيس وزراء الانقلاب، تشكيل لجنة من وزارات الشباب والرياضة والثقافة والتنمية المحلية، بالتعاون مع جهاز التنسيق الحضاري وكليات الهندسة والفنون الجميلة بالجامعات، لوضع هوية بصرية لمدن المحافظات، بمعنى أن يكون مدخل أي مدينة يشير إلى طابعها البيئي.
وبالفعل، انتهت اللجنة من رسم سياسة الهوية البصرية لبعض الأقاليم، ووضع كود خاص بالكثافة البنائية والردود والألوان والشكل والارتفاع والخط، ويشمل الإعلانات ورخص المباني. لكن هل ستنفذ حكومة الانقلاب شيئًا من توصيات هذه اللجنة أم أنها مجرد استعراض إعلامي لامتصاص غضب المصريين؟
تراكمات السنين
من جانبه، اعترف محمد أبو سعدة، رئيس الجهاز القومي للتنسيق الحضاري، بأن التشوهات البصرية بالقاهرة والمحافظات ليست وليدة اللحظة، وإنما هي تراكمات منذ خمسين عامًا أو أكثر، مؤكدًا أن التخلص من التشوهات البصرية في وقت قياسي أمر مستحيل.
وزعم أبو سعدة، في تصريحات صحفية، أن حكومة الانقلاب بدأت في دهان الطريق الدائري ومعالجة التشوهات البصرية بميدان المحطة في أسوان، وميدان طنطا، ومسارات رحلة العائلة المقدسة، بالإضافة إلى الميادين الرئيسية والقاهرة الخديوية والتاريخية، ومسار آل البيت، وميادين العاصمة الإدارية الجديدة.
ولفت إلى أن مجلس وزراء الانقلاب دشن جهاز تنظيم الإعلانات للتعامل مع تعديات وتشوهات الإعلانات الملصقة والمرسومة على الحوائط، مؤكدًا أن جهاز التنسيق الحضاري شارك في معالجة التشوهات البصرية بميدان العتبة والأزبكية وحديقة الأزبكية ومداخل المسارح وعواصم المدن الرئيسية وفق تعبيره.
وقال أبوسعدة إن الأجهزة المعنية بملف الهوية البصرية بدأت بمناطق حيوية مثل محطات القطارات بعواصم مدن المحافظات، لأنها القبلة الأولى التي تقابل الزائر لأي محافظة، ونعمل على تطوير ساحة مسجد إبراهيم الدسوقي بكفر الشيخ، إلى جانب تطوير قلب مدينة رشيد، وتطوير واحة سيوة وقلعة شالي، بحسب تصريحاته.
موازنة كبيرة
وأكد خبير التطوير الحضري والتنمية المستدامة، الدكتور الحسين حسان، أنه لا يوجد قانون للهوية البصرية، مشيرًا إلى أن مصر تضم 4742 قرية و131 ألف عزبة وكفر ونجع يسكنها 58 مليون مواطن، وهذه القرى خارج منظومة الهوية البصرية، ولدينا 236 مدينة و85 مركزًا و90 حيًّا، وهي المدن القديمة، مشيرًا إلى أن حكومة الانقلاب خصصت موازنة 380 مليار جنيه لتنفيذ الهوية البصرية، وبدأت بتطوير القاهرة التاريخية التي التهمت هذه الموازنة بالكامل.
وكشف حسان، في تصريحات صحفية، أن هناك 22 مدينة تابعة للمجتمعات العمرانية لم تُطبق آلية الهوية البصرية، إلى جانب 30 مدينة جديدة، وهي مدن الجيل الرابع، مؤكدًا أن الرؤية الاستراتيجية للهوية البصرية لمداخل المدن والقرى غائبة.
وطالب بضرورة العمل على مشروع قومي للهوية البصرية تنفذه الدولة، مشيرًا إلى أن الأقصر تفتقر للهوية البصرية في القرى والمناطق الرئيسية رغم أنها محافظة سياحية حيوية، وأكد إمكانية الحصول على الهوية البصرية لمحافظة القاهرة في زمن قياسي حال أسند المحافظون المشروع إلى كليات الفنون الجميلة وكليات الهندسة المعمارية، ووزارة الآثار للوقوف على البُعد التاريخي، والمجتمعات العمرانية للبُعد الهندسي.
وحذر حسان من أن مشكلة الهوية البصرية في قرى مصر كارثية، لأنها تعتمد بشكل كلي على مشروعات حياة كريمة التي تبحث في نهاية المشروع عن الهوية البصرية، وأغلبها فاقد لدراسة الجدوى تمامًا.
وأعرب عن أسفه لأن دولة العسكر تعتمد على جهات غير مفعّلة صراحة، ورئاسة وزراء الانقلاب تعتمد على جهاز التنسيق الحضاري، وهو جهة استشارية تابعة لوزارة الثقافة وليس لديها مهندسون ولا خبراء. وتساءل: ما علاقة وزارة الثقافة بفكرة الهوية البصرية للمباني والشوارع والأحياء؟
وأشار حسان إلى أن صندوق تطوير العشوائيات، الذي تم تغيير اسمه إلى صندوق التطوير الحضري، يملك موازنة ضخمة، وتشمل بنوده تطوير المدن، ومع ذلك لم يعمل ضمن خطط التطوير على فكرة تنفيذ الهوية البصرية للمدن والقرى التي تدخل فيها، وتقوم كل محاوره على البنية التحتية.
أهل الاختصاص
ودعا إلى ضرورة وجود رؤية استراتيجية لملف الهوية البصرية مع تشريعات صارمة للتعامل مع المخالفات والتشوهات وتعديات الهوية البصرية، مؤكدًا أهمية وجود مرجعية تاريخية تحمل التاريخ الإنساني والحضاري والاجتماعي والثقافي والموروثات الشعبية للمدن والقرى، كما هو الحال في الريف الأوروبي.
وأكد حسان أن انتشار الإعلانات التجارية والدعائية على جدران الجامعات والمستشفيات والمدارس والشوارع الرئيسية وعلى الكباري والطرق والمحاور يرجع إلى فساد المحليات وعدم تنفيذ القانون. وهي ليست مجرد تشوه بصري، ولكن الإعلانات تُدر عائدًا كبيرًا على المحافظة. من هنا، يضطر المحافظ للموافقة على الإعلانات لزيادة الموارد، بالإضافة إلى الإعلانات الملصقة على أتوبيسات النقل العام ودورات المياه العامة وحوائط المصالح الحكومية، بل هناك رسائل غرام يكتبها البعض على أبواب الجهات الحكومية!
وأضاف أن مشاكل المحليات كثيرة، منها: عدم تأهيل الكوادر الوظيفية، وغياب أهل الاختصاص في أغلب الإدارات المحلية، وغياب القوانين، واختلاف رؤى المحافظين في التعامل مع ملف الهوية البصرية، والفساد والرشوة، بالإضافة إلى وجود عجز في الإدارات الهندسية. ولفت إلى أن دولة العسكر تستعين في قانون التصالح بالمجالس الاستشارية الخارجية لعمل تقارير حول السلامة العامة للمباني بسبب عدم وجود مهندسين داخل الإدارات المحلية.
وتابع حسان: الحل الوحيد لسد العجز في غياب كوادر مؤهلة هو تطبيق فكرة الانتداب، مثل انتداب مهندسين من هيئة الأبنية التعليمية ومبنى ماسبيرو وهيئة نظافة وتجميل القاهرة، لتزويد المراكز الخاصة بالتنمية المحلية.
المحليات
وأكد خبير المحليات الدكتور أحمد القرماني أن ملف الإزالات والمخلفات معقد وليس سهلًا، ومعظم المحليات لا تزال تعاني من الفساد.
وقال القرماني، في تصريحات صحفية: “الجهاز الإداري لدولة العسكر غير صالح لتأدية مهامه، مشيرًا إلى أنه إذا كان هناك موظف واحد يعمل، فإن هناك عشرة لا يعملون.”
وشدد على ضرورة رفع مخلفات الإزالة من الأحياء والطرق بناءً على المبالغ المحصلة من التصالح، مشيرًا إلى أنه حتى في حالة الهدم، يدفع المواطن كامل الغرامات المالية المستحقة لدولة العسكر، والتي تشمل رفع مخلفات الإزالات والتنظيف. لكن المحليات تستولي على الأموال ولا تقوم برفع المخلفات.