كولومبيا… العروبة من غير ادعاء
بقلم: وائل قنديل
أعلن رئيس كولومبيا، غوستافو بيترو، في أغسطس الماضي، أن بلاده حظرت رسميًا تصدير الفحم إلى إسرائيل، قائلاً: “بالفحم الكولومبي يصنعون القنابل لقتل أطفال فلسطين”.
حدث ذلك بينما لا تزال مصر تشارك العدو تجارة الغاز الطبيعي، والأردن يصدّر إلى الاحتلال الخضار والفاكهة، وتركيا تسيّر سفنها إلى الكيان الصهيوني ثمّ تندّد باستهداف قوات الحوثيين لها في البحر الأحمر وخليج عدن، اتساقاً مع الموقف اليمني النبيل بقصب البواخر التي تنقل السلع إلى الاحتلال الذي يمنع الماء والغذاء والدواء عن الشعب الفلسطيني في غزّة.
كانت كولومبيا، الواقعة في أقصى غرب الكوكب، حاضرةً في مناسبات ملاحقة الكيان الصهيوني على جرائمه في غزّة منذ اليوم الأول أمام الهيئات الدولية، محكمتي العدل والجنايات الدوليتين والأمم المتحدة، كانت كولومبيا عربيةً في وقتٍ انسلخ فيه العرب، أو جُلّهم، من عروبتهم وتنكّروا لها، وصهينوا وتصهينوا.
قطعت كولومبيا علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل ولم يقطعها العرب، أعلنت كولومبيا أخوَّتها لفلسطين حين تخلّى عنها العرب، ارتدت ثوب النخوة والمروءة والشرف العربي القديم حين خلعه العرب. لم تفعل كولومبيا ذلك ادّعاءً أو انتحالاً لدور أو مكايدةً لواشنطن وتلّ أبيب، بل فعلت ذلك إيماناً بعدالة قضية شعب فلسطين، وإدراكاً لجوهر الصراع وإلماماً بالتاريخ الحقيقي، لا المزيّف.
في حوار معه بثّته قناة الجزيرة، السبت الماضي، تحدّث الرئيس الكولومبي عن العرب والعروبة كما لو كان ابن خلدون أو عبد الرحمن الكواكبي أو جمال حمدان، فقال إن العروبة مكوّن أصيل في سبيكة الشعب الكولومبي منذ جاء الاستعمار الإسباني بلاده في نهاية القرن الخامس عشر، مع سقوط غرناطة وانتهاء الحكم العربي للأندلس، إذ أجبر الغزاةُ العربَ على التجنيد في الحملات الاستعمارية على دول أميركا اللاتينية، فاختلط الدم العربي بدماء شعب كولومبيا، وحتى القرن التاسع عشر، مفصّلاً بأنه “عندما أتى الإسبان إلى قارّة أميركا في العام 1492، وهو العام الأخير للخلافة في غرناطة، أتى العرب إلى هنا مع البحّارة، ثمّ نُصّر العرب والمسلمون وقتها بالقوة، وقد أحضرهم الأسبان البيض، كما كانوا يعرفون حينها، بالقوارب، وأجبروهم على الخدمة في الجيش والقوات البحرية لما لديهم من معرفة.
وكان كثيرون من عمّال المناجم من العرب أيضاً هنا في كولومبيا، وفي سواحلها التي كانت من أول الأراضي المكتشفة، وهذا يعني بأننا أبناء الكاريبي، لدينا دم عربي كما لدينا دم أفريقي ودم من الهنود الحمر، وأيضاً من البيض.
لذا، أعتبر أن أحد مؤسّسي بلادنا هم العرب، لأننا لسنا إسباناً فقط، أو من عرق واحد، فالرابط بيننا موجود بالفعل، وهو رابط ثقافي بقدر ما هو اقتصادي اجتماعي”.
هذا الاعتزاز بالجذور العربية ليس فقط المحرّك لكولومبيا في اتخاذ هذا الموقف النبيل دفاعاً عن الشعب الفلسطيني، بل هو بالأساس موقف حضاري وإنساني يعبّر عن رؤية ثقافية وسياسية عميقة للعلاقة بين الشمال والجنوب.
تلك العلاقة التي تجسّدت في الانحيازات والتموضعات السياسية من الصراع، فيقول إن هدف حرب الإبادة التي تمارسها إسرائيل في قطاع غزّة منع قيام وطن للفلسطينيين، وقال: “منذ أول قذيفة سقطت على غزّة، كنت أرى أن ما تنوي إسرائيل الشروع به هو إبادةٍ جماعية بحقّ الفلسطينيين لأسباب سياسية، وهي الإبادة التي يدعمها الغرب. نتائج الحرب التي وصلنا إليها حتى اليوم تؤكّد ذلك، وتشير بوضوح إلى أن هدف هذه الحرب الأساس هو منع قيام وطن للفلسطينيين.
وبرأيي، ما يجري في غزّة والشرق الأوسط ليست مُجرَّد حرب عابرة، بل ما تقوم به اسرائيل بحقّ غزّة وفلسطين والمنطقة هو نقل رسالة تهديد، ونموذج مخيف للشعوب من معارضة أي توجّهات لدول الشمال في أيّ قرار، بما فيه ما يرتبط بالتغيّر المناخي، أو أيّ نوع من القرارات السياسية أو الاقتصادية، لأن الدول التي ترى نفسها إمبراطوريات، وتحلم بالسيطرة على العالم، باتت تبني نموذجاً مختلفاً لإحكام السيطرة على العالم يتمثّل في إشعال الصراعات بشكل دائم لإشغال الشعوب ومنعها من التحرّر، والبحث عن استقلال في قراراتها ومواقفها”.
قد يدهشك، وأنت تتأمّل هذا الخطاب المتحضّر، أن المتحدّث رئيس دولة تعاني مشكلَات اقتصادية وأزمة ديون، وتكاد تكون رقبتها في يد أميركا، التي هي الشريك الكامل والداعم الأول للكيان الصهيوني في حرب الإبادة ضدّ غزّة ولبنان، ولم يمنعه هذا الأمر من التمسّك بموقفه الحضاري الإنساني، ومن الدفاع عن استقلال قراره السياسي، متحدّياً حكّام الامبراطوريات الحالمة بالهيمنة، معلناً أن بلاده تحترم قرار محكمة الجنايات الدولية، وستعتقل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع السابق يوآف غالانت، إذا زارا كولومبيا.
موقف لم تجرؤ على اتخاذه وإعلانه الدول العربية التي تزعم أنها وفلسطين شقيقات.