وسط عجز تام أمام إثيوبيا على مدار عقد من الزمان، لم يستطع المنقلب السفيه السيسي إقناع أو إجبار إثيوبيا على احترام الحقوق المصرية في مياه النيل، بل ذهب يهاجم من يقترح عليه التحرك أو تشديد لغته وتصعيد دبلوماسي وسياسي في مواجهة التعسف الصهيوني، متهمًا معارضيه تارة بالمزايدة على سياساته الحكيمة، وتارة بأن عليهم أن يتوقفوا عن “الهري”، بقوله “بطلوا هري!”، على حد تعبيره البذيء الذي لا يصدر من رجل دولة.
والغريب أن قيادات الجيش والسياسة وكل دولة الانقلاب قابلت التصريح بالتصفيق والضحكات الممجوجة الواهية التي تعبر عن جهل.
ثم يأتي بعد اكتمال بناء السد بنسبة 100%، على حد وصف رئيس وزراء إثيوبيا أبي أحمد، ليكمل السيسي السير في نفس المسار، من طلب التفاوض، وتحميل مأساة المصريين على أية شماعة، سواء كانت داخلية أو خارجية.
فيعود اليوم إلى طرق باب الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب، وهو من سبق أن أعطى السيسي الضوء الأخضر خلال ولايته الأولى لكي يضرب سد النهضة، وعندها لن يتحرك أحد، لأن مصر تدافع عن حقوقها القانونية والتاريخية.
إلا أن السفيه السيسي آثر السلامة، وفضّل هو وقيادات جيشه السمان المشاريع الاقتصادية والبزنس والأموال والدولارات في شركات ومناقصات بالأمر المباشر، وزيادة “عرق الجيش” وأمواله التي توزع على القيادات السمان الذين ابتلعوا أموال ومقدرات وأراضي مصر في بطونهم، تاركين الشعب المصري لمصيره المجهول بالعطش والجوع والفقر.
ترامب المنقذ
ووفق ما كشفته تقارير إعلامية مؤخرًا، تعكف مصر حاليًا على تحديث ملف سد النهضة الإثيوبي بالتنسيق مع المسؤولين في السودان بهدف فتح مسار جديد ضمن التحركات الخاصة بالأزمة عبر الإدارة الأميركية الجديدة بقيادة الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
حيث صدرت تعليمات أخيرًا للمسؤولين الفنيين عن الملف في وزارة الري بتحديث البيانات الخاصة بحجم الأضرار التي تعرضت لها مصر، وكذلك حجم المخصصات المالية التي تم توجيهها إلى قطاعات تحلية المياه خلال السنوات الأربع الماضية، يأتي ذلك بعد تفعيل آليات التشاور الفني والسياسي مع السودان على مستوى وزيري الري والخارجية من أجل إعداد ملف متكامل لطرحه أمام إدارة ترامب، في ظل وعود من جانب مسؤولين في إدارته بأن يكون ملف أزمة السد ضمن أولوياته لفرض اتفاق حول تشغيل السد خلال الفترة المقبلة.
وكانت مصر والسودان وإثيوبيا قريبة من التوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة نهاية عام 2019 ومطلع عام 2020 بعد وساطة أميركية رعاها ترامب، لكن أديس أبابا رفضت التوقيع حينها.
هل يستطيع الديكتاتور اتخاذ قرار الحرب؟
يشار إلى أنه بعد أن رفضت إثيوبيا التوقيع على اتفاق واشنطن بشأن السد، ألمح ترامب إلى أن مصر من حقها الدفاع عن مصالحها كيف شاءت، في إشارة ضمنية إلى إمكانية استعمال القوة العسكرية.
إلا أن السيسي ونظامه العسكري لم يستطع اتخاذ القرار بمهاجمة السد أو تخريبه أو حتى الانسحاب من اتفاق المبادئ الذي ألجم مصر أمام الصلف الإثيوبي، وهو الأمر القابل للتكرار حالياً، فهل يستطيع السيسي السير في هذا الاتجاه؟
يرى خبراء أن هذا الأمر مستبعد، إذ إن السيسي وقيادات جيشه باتوا أكثر ميلاً للراحة وتحصيل المصالح والمنافع الشخصية الضيقة على حساب مصالح المصريين.
وعود أميركية
وعلى أمل الوعود التي لن تكون بالمجان من الإدارة الأميركية لنظام السيسي، يعيش النظام العسكري المصري على أمل إشارات إيجابية بشأن معاودة ترامب لعب دور في حسم وإنهاء تلك الأزمة عبر اتفاق مكتوب بين الأطراف الثلاثة: مصر والسودان وإثيوبيا، بالشكل الذي يراعي مخاوف واحتياجات الجميع.
وجاءت الوعود الأميركية الجديدة للقاهرة في سياق الأدوار التي تلعبها مؤخراً إزاء بعض أزمات المنطقة، التي جاء في مقدمتها أزمة الحرب في غزة.
ويراهن السيسي على أن ملف أزمة سد النهضة يحظى بموقع متقدم على أجندة اهتمامات ترامب خلال الفترة المقبلة، وذلك بعدما تم التطرق إلى هذا الملف أثناء اتصالات وتنسيق بشأن التحركات والوساطة المصرية مؤخراً مع مقربين من ترامب، المنتظر توليهم مسؤولية ملفات متعلقة بالشرق الأوسط.
إلا أن تلك الوعود لا تُعطى مجاناً في السياسة، فقد يكون الثمن أفدح وأكبر، كالتخلي عن أجزاء من سيناء لإنفاذ صفقة ترامب الأولى المتعلقة بتهجير الفلسطينيين إلى سيناء ضمن ما يُعرف بصفقة القرن، وهو ما سيتضح خلال الفترة القادمة.
وكانت مصادر سياسية بالقاهرة قد كشفت أن زيارة وزير خارجية الانقلاب بدر عبد العاطي الأخيرة للسودان (3 ديسمبر الحالي) ولقاءه رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان تركزت في جانب كبير منها على ملف أزمة السد. كما تضمنت الرسالة الخطية من السيسي التي سلمها وزير الخارجية للبرهان خلال الزيارة حثاً مصرياً على التنسيق المكثف بين الجهات المعنية في البلدين لسرعة إنجاز الملف الجديد.
اتفاق قانوني ملزم؟
يرى خبراء صعوبة التوصل إلى اتفاق قانوني ملزم بشأن سد النهضة الإثيوبي يضمن حقوق مصر في مياه النيل بوصفها دولة مصب. إذ إن تحقيق مثل هذا الاتفاق يتطلب وجود إرادة سياسية وقرار من الجانب الإثيوبي، وهو ما لا يبدو متاحاً في ظل تمسك رئيس الوزراء الإثيوبي أبي أحمد بموقفه المتشدد.
ولعل ما يؤيد ذلك هو أن الموقف الإثيوبي أصبح أكثر تشدداً بعد إكمال بناء السد، ما يجعل من غير المتوقع أن يتغير موقف أديس أبابا في المستقبل القريب.
ومن ثم فإن الرهان على ترامب يبدو وهماً جديداً يرتكن إليه السيسي. إذ إن ترامب لم يتخذ أي إجراءات ضد إثيوبيا حينما رفضت التوقيع على اتفاق تم التوصل إليه بواشنطن. كما أن فريق ترامب الجديد يبدو منشغلاً بالقضايا الداخلية، بما في ذلك تصفية الحسابات مع الخصوم السياسيين وإلغاء القرارات الصادرة عن إدارة جو بايدن عبر أوامر تنفيذية.
وكان ترامب خلال فترته السابقة قد استغل علاقات وزير الخزانة الأميركي ستيفن منوتشين الجيدة بمصر لإقحامه في الملف، وصولاً إلى دعوة وزيري خارجية مصر والسودان (سامح شكري وأسماء عبد الله حينها) إلى واشنطن للتشاور حول السد. أما الآن، فالأمر مختلف.
الإمارات تلعب مع إثيوبيا
ولعل أبرز ما يعرقل المساعي المصرية المرجوة من ترامب، العلاقات المعقدة في المنطقة بما في ذلك تأثير أبو ظبي التي تتمتع بعلاقات جيدة مع إثيوبيا رغم تقاربها الظاهر مع مصر، تضيف مزيداً من التعقيد إلى هذا الملف.
ومن ثم يبقى أمام مصر السيناريو الأكثر ترجيحًا والأكثر فعالية، وهو الاعتماد على ذاتها في مواجهة إثيوبيا، والدفاع عن حقوقها بنفسها، وإلا ستواجه مخاطر الجفاف والتصحر، في ظل فقر مدقع يعيشه البلد الأكثر سكانًا في المنطقة، علاوةً على الديون القاتلة التي ورط فيها السيسي مصر والتي ستفاقم الكثير من الأزمات لمصر وللمصريين.