في زمن الإنجازات وفي جمهورية السيسي الجديدة، تحول ملايين الأطفال إلى متسولين بسبب الفقر، وتفاقمت أزمة التسرب من التعليم لعدم قدرة أسر هؤلاء الأطفال على الإنفاق عليهم. هذه الظاهرة الخطيرة تتزايد يومًا بعد يوم، في الوقت الذي تستعد فيه حكومة الانقلاب لإلغاء الدعم التمويني خضوعًا لإملاءات صندوق النقد الدولي، وهو ما يهدد بتزايد أعداد المتسولين والجوعى.
شوارع القاهرة والمحافظات أصبحت تعج بالمتسولين، وبمجرد السير في الشوارع والميادين، سرعان ما تسمع على جانبيك: «حسنة يا بيه… ربنا يسعدك… مناديل… إلهي يستر طريقك»، كلمات تتردد على ألسنة صبية صغار اتخذوا من «التسول» حرفة، واستغلهم معدومو الضمير في جمع الأموال.
أطفال يجوبون الشوارع حفاة، وأحيانًا عراة، وبعضهم يقوم بتمثيل مشاهد عبثية توحي بأنه من ذوي الهمم، طالبين المساعدة ومعتمدين على كسب تعاطف المارة. ووراء هذه الوجوه البريئة، تقبع منظومة من الاستغلال المنهجي، حيث يتم تحويل الطفولة إلى أداة تُستخدم لتوليد الأرباح بطرق لا أخلاقية، في الوقت الذي لا تلتفت فيه حكومة الانقلاب لهذه الظاهرة الخطيرة.
شبكات منظمة
في إحدى إشارات المرور بالجيزة، تجلس «سلمى»، طفلة لم تتجاوز العاشرة من عمرها، على الأرض بينما تحاول بيع المناديل.
سألناها عن سبب وجودها هنا، فقالت: أساعد أمي لأنها مريضة ولا تستطيع العمل.
أيضًا «علي»، صبي يبلغ من العمر 12 عامًا، أكد أنه يعمل طوال اليوم ليجمع المال ويسلمه إلى رجل يصفه بأنه «صاحب العمل».
وأكد أنه هو وغيره من الأطفال يتعرضون للتهديد إذا لم يحققوا الهدف اليومي المحدد، مما يكشف عن وجود شبكات منظمة تدير هذه العمليات.
إشارات المرور
«أحمد»، طفل يبلغ من العمر 8 سنوات، يقف عند إشارة مرور حاملًا علبة مناديل. يقول أحمد: أخي الكبير يرسلني كل يوم، وإذا لم أجلب له المال يضربني.
وتقول «ليلى»، فتاة في العاشرة: أعمل مع سيدة ليست أمي، تُعطيني طعامًا فقط ولا تُعطيني نقودًا.
«عادل»، طفل يبلغ من العمر 10 سنوات، يعمل عند إشارات المرور منذ عامين. يقول: لا أذهب إلى المدرسة لأنني يجب أن أعمل. إذا لم أجمع المال الكافي، أتعرض للضرب.
عصابات
في هذا السياق، أكد خبير حقوق وتشريعات الطفل محمود البدوي المحامي أن ظاهرة التسول تفاقمت في مصر بشكل كبير في زمن الانقلاب نتيجة استغلال الأطفال من قبل عصابات تهدف إلى إثارة تعاطف المارة وجمع الأموال.
وقال «البدوي» في تصريحات صحفية إن مصر لا تحتاج إلى تشريعات جديدة لمواجهة ظاهرة التسول، وإنما إلى آليات فعّالة لتطبيق القوانين القائمة بصرامة.
وأشار إلى أن قانون الطفل رقم 12 لعام 1996 وتعديلاته عام 2008، وقانون مكافحة التشرد، وقانون مكافحة الاتجار بالبشر رقم 64 لعام 2010 تهدف إلى حماية الأطفال من الاستغلال، مؤكدًا أن الأطفال المتورطين في التسول ليسوا جناة، بل ضحايا يتم استغلالهم بطرق غير إنسانية.
وأوضح «البدوي» أن العصابات تعتمد على حيل مختلفة لاستغلال الأطفال في استجداء المارة، مثل استخدام طفل يبكي ويدّعي أنه تائه أو بحاجة إلى المال لإجراء عملية، أو طفل يحمل زجاجة دواء فارغة لإثارة الشفقة، أو يظهر عند إشارات المرور وهو يمسح زجاج السيارات، مشيرًا إلى أن هذه الأساليب تستهدف عاطفة الناس وسلب أموالهم.
وشدد على أن القضاء على ظاهرة التسول لا يمكن أن يتحقق بتطبيق القوانين فقط، بل يتطلب تكاتف المجتمع بجميع فئاته، مشيرًا إلى ضرورة نشر ثقافة توعوية تسلط الضوء على مخاطر التسول وآثاره السلبية على الاقتصاد والمجتمع.
وطالب «البدوي» بتعزيز دور المؤسسات المجتمعية والجهات الحكومية في مكافحة هذه الظاهرة، والعمل على إعادة تأهيل الأطفال المتضررين من الاستغلال ليصبحوا أعضاء منتجين ونافعين في المجتمع.
ضغوط نفسية
وحذرت استشاري الصحة النفسية والإرشاد الأسري الدكتورة منى حمدي من أن استغلال الأطفال في التسول يُعد من أخطر الظواهر التي تهدد المجتمع، مشيرة إلى أن تعريض الأطفال للتسول يُعد أحد المصادر الأساسية لإنتاج المجرمين في المستقبل.
وقالت د. منى في تصريحات صحفية إن التسول يؤدي إلى تراجع أو توقف النمو النفسي والوجداني للأطفال، مشيرة إلى أن الطفل يشعر بعدم الحب أو بحب مشروط مرتبط بتنفيذ أوامر الوالدين، مما يزرع داخله إحساسًا بالدونية والتهميش نتيجة الإذلال الذي يتعرض له.
وأضافت: هذه الظروف تترك آثارًا نفسية قاسية على الأطفال، مثل الشعور بالإهانة والرفض والتجاهل، مما يؤثر بشكل كبير على تقديرهم لذاتهم واحترامهم لأنفسهم، وهما حاجتان أساسيتان للصحة النفسية وفقًا لهرم ماسلو.
وأكدت د. منى أن الأطفال المتسولين يعانون من ضغوط نفسية شديدة نتيجة شعورهم المستمر بالخوف وانعدام الأمان في الشارع، إلى جانب الإهمال العاطفي من قبل المسؤولين عنهم، موضحة أن هذه الظروف تؤدي إلى شعور الطفل بأنه مجرد وسيلة لتحقيق مطالب الآخرين، وهو ما يرسخ لديه صورة ذاتية سلبية تجعله يشعر بعدم القيمة.
وكشفت أن الأخطر أن هؤلاء الأطفال قد يتعرضون للإيذاء النفسي والجسدي، بل وأحيانًا للتحرش أو الاعتداء الجنسي، مما يدفعهم إلى تطوير ميول عدوانية وسلوكيات عنيفة تجاه المجتمع وحتى تجاه أسرهم، نتيجة الكراهية المكبوتة التي تتكون لديهم على مستوى اللاوعي.
وأشارت د. منى إلى أن التسرب من التعليم هو نتيجة مباشرة لظاهرة التسول، حيث يؤدي إلى توقف نمو القدرات العقلية والذهنية للأطفال، فضلًا عن ضعف المهارات الإدراكية، مؤكدة أن الأطفال المتسولين يلجأون إلى تطوير أساليب احتيال وخداع للحصول على المال، مما يؤثر سلبًا على نموهم الوجداني ونظرتهم لأنفسهم وللعالم المحيط بهم.
حملات توعية
وشددت على أن إعادة تأهيل الأطفال المتسولين تتطلب جهودًا كبيرة وبرامج متكاملة لإصلاح الأضرار النفسية التي تعرضوا لها، لافتة إلى ضرورة إعادة بناء ثقتهم بأنفسهم وتعزيز احترامهم لذاتهم، مع توفير الحنان والرعاية لتعويض ما فقدوه.
وطالبت د. منى بتأهيل الوالدين لضمان عدم تكرار هذه الممارسات بعد انتهاء عملية التأهيل، بجانب تغيير ثقافة المجتمع تجاه الأطفال المتسولين، مؤكدة ضرورة معاملتهم برفق وإظهار التعاطف معهم دون تقديم المال الذي قد يشجعهم على الاستمرار في هذه الممارسة.
وقالت إن الحل النهائي لهذه الظاهرة يكمن في سن قوانين صارمة تجرم استغلال الأطفال في التسول، إلى جانب حملات توعية مجتمعية تهدف إلى حماية الطفولة وتعزيز بيئة آمنة تضمن نموهم السليم نفسيًا واجتماعيًا.