الخوف من ثورة سورية مضادّة

- ‎فيمقالات

 

بقلم: حيّان جابر

 

يلحظ متابع الشأن السوري تصاعد الأصوات المتخوّفة من مستقبل سورية، التي يمكن تقسيمها بين ثلاث مخاوف، أولها؛ التخوّف من عودة الصراع الداخلي المسلّح، تحت عناوين وأسباب مختلفة، معظمها يعكس استمرار الصراع الدولي والإقليمي على سورية، كما في تدخّل النظام الإماراتي المخرّب دائماً ودوماً (للأسف!). ثانياً، التخوّف من هيمنة هيئة تحرير الشام على المشهد السوري، وتمكّنها من تأسيس نظامٍ استبدادي جديدٍ، يحاكي نظام الأسد، أو على الأقلّ يحاكي نظام الهيئة القائمة في شمال سورية، بدعمٍ إقليمي ودولي. ثالثاً؛ التخوّف من نموذج عبد الفتّاح السيسي، أو النموذج المصري، أي التخوّف من أن يؤدّي نقض حكومة الأمر الواقع الحالي، والاحتجاج عليها، إلى تسرّب قوى النظام السابق ضمن الحركة الاحتجاجية والانقلاب عليها لاحقاً، بغرض إعادة سيطرة بنى وقوى النظام القديم ذاته.

بداية؛ لا بدّ من التأكيد على منطقية المخاوف السابقة، بل ربّما سواها أيضاً، إذ لكلٍّ من هذه المخاوف أسبابه ودلالاته ونماذجه المعاصرة. لكن علينا قبل الدخول في التفاصيل التأكيد على صلابة الشعب السوري، تلك الصلابة التي منعت هزيمة الثورة السورية (من المبكّر جدّاً الحديث عن انتصار الثورة)، رغم كلّ العنف والإجرام المُرتكَب من قبل الأسد وسواه من مؤيّديه غالباً، وأحياناً من بعض معارضيه كذلك، فلولا صلابة الشعب السوري لنجحت محاولات تعويم نظام الأسد. هذه الصلابة هي القاعدة الصلبة التي يمكن الاتّكال عليها، والاطمئنان إلى قدرة السوريين في إفشال محاولات الثورة المضادّة كلّها، ومن ثمّ قدرتهم على استكمال الثورة (بمفاهيمها الشاملة) عاجلاً أم آجلاً.

في ما يتعلّق بالتخوف من عودة/ استمرار التدخّل الخارجي في الشأن السوري، وخصوصاً التخوّف من التدخّل الإماراتي والأميركي والإيراني والروسي، وبدرجة ما التركي، نجد أنّ التدخّلات الخارجية في الشأن السوري لم تتوقّف لحظة واحدة حتّى الآن، كما في اجتياح الاحتلال الصهيوني المستمرّ الأراضي السورية، بموافقة ودعمٍ أميركي بالحدّ الأدنى، أو من خلال استمرار قوى الاحتلال الخارجي الأميركي في شمال سورية، أو في استمرار السعي التركي لحلٍّ أمني وعسكري للقضية الكردية، أو في تصاعد نشاط المجموعات العسكرية المحسوبة على نظام الأسد الساقط، مع تزايد التسريبات عن الدعم الإماراتي وأحياناً الإيراني لبعضها.

من هنا، نلحظ أن صمت الشعب السوري عن تجاوزات حكومة الأمر الواقع الحالية في سورية، لم يحمِ سورية من التدخّلات الخارجية أو يحدّ منها حتّى، بل (للأسف!) يعتقد الكاتب أن صمته يشجّع تلك الأطراف على مزيدٍ من التدخّل، في ظلّ الفراغ السوري الهائل (صمت شعبي وانشغال الهيئة وحكومتها)، فالهيئة منهكة بشؤون السيطرة الداخلية، من الملفّات الاقتصادية والسياسية والثقافية إلى الملفّ الأمني الشائك (فرض السيطرة الأمنية على فصائل المعارضة المسلّحة وسواها)، مع العلم أن الهيئة لم تنجح في فرض السيطرة الأمنية المطلقة شمال سورية في المرحلة السابقة، استناداً إلى الحلّ العسكري والأمني فقط، ما يجب اعتباره مؤشّراً على استحالة فرضه بالأدوات والآليات ذاتها اليوم.

من هنا، يعتقد الكاتب أنّ سياسات منع الرقابة الإعلامية والشعبية في المسائل الموصوفة بالأمنية، أمرٌ فادحٌ، ويفتح الباب أمام منحيَين خطيرَين قد يفجّر أحدهما استقرار سورية، أولهما؛ باب الثأر الشخصي والتجاوزات الفردية، المدفوعة عاطفياً، أي غريزة الانتقام المنفلت من أي ضابط، الذي لا يطاول المتورّطين بالدم السوري فقط، بل قد يطاول أنواعاً مختلفة من الاعتداءات، منها اعتداءاتٌ بسيطة، بل وأحياناً افتراضية غير مثبتة أو مشكوكٌ فيها. في حين يتمثّل المنحى الثاني في تسلّل التدخّل الخارجي في ثنايا الملفّات الأمنية، عبر عشرات الوسائل، منها شراء الذمم والولاءات، وإثارة الخلافات والانقسامات، والدعاية والتحريض، ونشر الأكاذيب المحرّضة طائفياً وقومياً، وأحياناً عشائرياً.

أمّا التخوّف من هيمنة الهيئة أو حكومة الأمر الواقع الحالية، فهو تخوفٌ مشروعٌ طبعاً، لا يتطلّب تجاوزه استعادة لدور الشعب السوري الرقابي فقط، بل والسياسي أيضاً، وهنا لا بدّ من التأكيد على أهمّية عودة محاولات التنظيم المجتمعي والسياسي التي كانت في بداية الثورة السورية، بل ومسارعة الخُطا لتأسيسها وتمتينها وتطويرها هذه المرّة، قبل تصاعد التدخّل الخارجي، وقبل تمكّن حكومة الأمر الواقع من فرض قيودها الأمنية الصارمة، المؤسّسة لنظامٍ استبدادي جديدٍ.

 

في حين يعتقد الكاتب أنّ التخوّف من النموذج المصري أو نموذج السيسي هو أقلّ المخاوف احتمالية، رغم انتشاره الواسع، ورغم بعض المظاهر السورية التي تحرّض لخوف السوريين من هذا النموذج، كما في تصالح حكومة الأمر الواقع السورية الحالية مع بعض رموز نظام الأسد الطائفيين أو الاقتصاديين، وربّما العسكريين والأمنيين. فعلى الرغم من ذلك علينا التمعّن في الفروق الكبيرة والعديدة بين النموذجين السوري والمصري، خصوصاً ما يتعلّق ببنية النظام الحاكم، إذ مثّل هروب بشّار الأسد سقوطاً كاملاً لمجل نظامه، تماماً كما حصل (ويحصل) في جميع النماذج المماثلة، التي لم يسعَ نظام الحكم فيها إلى حلولٍ وسطية، تضمن الحفاظ على مؤسّسات الدولة (وأحياناً حماية رموز النظام أو بعضها). كما نلحظ أيضاً أن بنية نظام الأسد، أو بالأصحّ عصابته، بسيطة ومكشوفة أمام الجميع، لذا لم يكن في سورية دولة عميقة أصلاً، على عكس النظام المصري، الذي حذّر بعضهم من خطر دولته العميقة منذ اللحظات الأولى لتنحّي حسني مبارك، إذ رعت الدولة العميقة المصرية تغيير واجهة النظام المصري في 2011، وتحالفت/ تقاربت لاحقاً مع مجمل قوى الثورة المصرية، ومع جماعة الإخوان المسلمين، قبل أن تنقلب عليهما معاً، بعد انقلاب “الإخوان” على قوى الثورة وتحالفاتهم السياسية التي أوصلتهم أصلاً إلى سُدَّة الحكم.

لكن ورغم استبعاد الكاتب هذا الاحتمال، فإن مسار حماية سورية منه يتطلّب من السوريين عكس ما يروّجه أصحاب هذه المخاوف، أي تفعيل الرقابة الشعبية السورية، وتفعيل دور الشعب السوري السياسي، لأنّ عودة النظام القديم تحتاج إلى عودة سلطة رموزه (أو بعضهم) ونفوذهم، كما تتطلّب عودة سلطة رموز نظام الأسد (أو بعضها) ونفوذها رعاية حكومة الأمر الواقع الحالية وحمايتها، وعليه فإن منع ارتكاب حكومة الأمر الواقع الحالية (حكومة الهيئة) مثل هذه الخطيئة، يتطلّب رقابة الشعب السوري ومتابعته، وعودة دوره السياسي المنظّم والواعي.

خلاصة القول؛ بينما جميع المخاوف السورية مشروعة، وخطر الثورة المضادّة قائمٌ من دون أي شك، فإن ضمان حرّية سورية ومضيّها في طريق بنائها وتطوّرها الوحيد هو شعبها وفاعليته لا العكس.