بقلم / أحمد المرزوقي
إذا أردت أن تعرف رُقيّ أمّة أو تخلّّفها فاذهب إلى مؤسّساتها التعليمية، وتفقّد أحوالها، فإن وجدتها على أحسن ما يرام، فاعلم أنها أمّة راقية ورائدة بين الأمم، وإن وجدتها مهملةً مزريةً فتيقّن أنها في قاع قيعان التخلّف، وهنا يجدر بك من باب الرأفة أن تقرأ عليها السلام وتترحّم عليها بتلاوة سورة يس. هذا ما حدث لي مع صديق لمّا ساقتني الظروف إلى أن ألج للمرّة الأولى في حياتي عتبة باب كلّية الآداب بعين الشقّ في الدار البيضاء… يا حسرتاه. أقول يا حسرتاه، لأننا نقيم اليوم الدنيا ولا نقعدها تأهّباً واستعداداً للمشاركة في تنظيم كأس العالم لكرة القدم مع إسبانيا والبرتغال. وهو أمر جلل من ناحية، وشيء تافه من ناحية أخرى. جللٌ لأننا سنصرف جبالاً شاهقة من الأموال سيخرج معظمها من جيوب المواطنين كرها، ونحن ما أحوجنا أن نصرفها على التعليم والصحّة والعدل، وهي قطاعاتٌ حيويةٌ تمسّ المواطن في صميم وجوده، وتعرف (للأسف الشديد!) تردّياً خطيراً في وطننا بسبب المشاكل المزمنة التي ما فتئت تعشّش فيه منذ بزوغ فجر الاستقلال إلى اليوم. والأمر تافه من جهة أخرى لأنه يتعلّق بلعبة شعبية فقط. لعبة ستبقى رغم ضخامة الحدث الذي يدور حولها مجرّد لهو عابر سينتهي كما تنتهي الفقاقيع عند أول هبّة ريح، وآنذاك سنظلّ مختنقين في الضيق والحرج، نتنفّس بمنخار واحد، ونجرجر أغلال الديون الضخمة كما يجرجر المحكوم بالأشغال الشاقّة سلاسله الثقيلة.
وهذه المفارقة العجيبة بين اهتمام مهول بقطاع الرياضة وإهمال مزمن لقطاع حيوي كقطاع التعليم، هو ما يسوق إلى الحديث عن زيارة لكلّية الآداب بالدار البيضاء، لمّا رافقت صديقاً كان له لقاء مرتّب مع أستاذ مدرّس هناك. وبمجرّد وصولنا إلى الباب، انتبهنا من الوهلة الأولى إلى أن البوّاب، رغم طيبته ودماثة أخلاقه، مسنّ بحالة صحّية مزرية، يبدو وكأنه مختصر مفيد وُضع في ذلك المكان ليكون عنواناً ناطقاً لتلك المؤسّسة التعليمية المتهالكة. إذ ما كان أحوجه، وهو المعلول النحيف، أن يخلد إلى راحة المحارب في بيته بعد عناء السنين، التي ظهرت محفورةً في تجاعيد وجهه الأسمر الداكن، يأخذ تقاعده ويستفيد منه، لكن نيوليبرالية السياسات المتعاقبة نغصّت على الناس شروط العمل، وحرمتهم من التقاعد بسبب خصخصتها مجموعةً من القطاعات المرتبطة بالعمل الوظيفي.
ما أن تخطينا عتبة الكلّية، وجُلنا بنظرنا في أرجائها شمالاً ويميناً، حتى هالنا تغوّل الأعشاب العشوائية التي نمت وتطاولت في فوضى عارمة، بعدما تُرك لها الحبل على الغارب، لتندفع وكأنّها تتوق إلى معانقة أغصان الأشجار القليلة الهرمة التي جرى اليباس في بعض فروعها جريان السقم في الجسم العليل. أمّا بنايات الكلّية ومنشآتها، فواضحٌ أنها مبنية بطريقة لا نظام فيها ولا تخطيط مسبق، حيث البنايات متداخلة وغير منسجمة، فيبدو بوضوح أنها بُنيت في مواعيد مختلفة، كان يضاف فيها مبنىً في مساحة فارغة، كلّما اتسع أعداد الطلبة الملتحقين بها، بعد أن تأسّست في الأصل على بناية صغيرة لمدرسة المعلّمين التي كانت موجودةً في ذلك المكان قبل اتخاذ قرار تحويلها إلى كلّية للآداب والعلوم الإنسانية، مطلع الثمانينيّات من القرن الماضي.
نيوليبرالية السياسات المتعاقبة نغصّت على الناس شروط العمل، وحرمتهم من التقاعد
ولمّا دخلنا قاعة الأساتذة بحثاً عمّن نعرف من أصدقائنا في الكلّية، لم نجد فيها ما يثير الانتباه أو يشدّ النظر، إذ كانت شبه قرعاء لولا كنبات قديمة التي تقابلها خزانة صغيرة ربع مملوءة بكتب خالية من أمّهات الكتب. وفي جانب القاعة، وجدنا شرفةً فيها كراسي عاديةً تطلّ على مربّع وصلت فيه الأعشاب العشوائية هي الأخرى إلى منتهى طولها، ما يدّل على أن الاعتناء بجمالية المكان آخر هاجس المعنيين بالأمر. ولإنصاف هؤلاء، قد لا يكون التفريط من جهتهم، وإنما من هزالة الميزانية المخصّصة للجامعة، إذ من غير المعقول أن يصرف العميد مالَ أولاده على تزيين حرم جامعي بحجم مؤسّسة كبيرة. وحين استفسرنا عن الأستاذ الذي يريد صاحبي لقاءه، قيل لنا إنه غادر قاعة درسه، لأنه لم يحضر حصّته إلا طالبان يتيمان. وعلى ذكر الأساتذة، التقينا في طريقنا، ونحن نذرع الكلية بالطول والعرض، وجوهاً كالحةً مهمومةً تتحدّث تقاسيم وجهها المتعبة عن واقع ما يعانونه من ضنك وقنوط.
سوف أقف هنا قليلاً لكيلا أفهم خطأً، ويقال إنني لا أرى سوى النصف الفارغ من الكأس، وإنني لا أبحث سوى عن القدِح والتشويه. ولكن الحقيقة هي التي ذكرت، وباستطاعة أيّ محايد أن يعاين الواقع المزري لحالة التعليم في المغرب، فيما يعتقد المغاربة إنهم سيبلغون من الافتخار عنان السماء عند المشاركة في تنظيم كأس العالم لكرة القدم. إذ هل من المعقول مثلاً أن يبنوا ملاعبَ باهظةَ الثمن، وملعباً باذخاً للهوكي على الجليد في الرباط، حيث السياق عندنا لا علاقة له بهذه اللعبة أصلاً، وأنا متيقن بأنه سيبقى مجرّد ديكور للبريستيج، بينما في بوادينا المهمّشة يقطع الأطفال الصغار، في أسمالهم البالية وأرجلهم شبه الحافية، مسافات طويلة في الغابات والوديان بين برد قارس في الشتاء، وحرارة خانقة في الصيف للذهاب إلى مدرسة نائية؟ إن المرء ليتساءل بكثير من الدهشة والاستغراب عن الكيفية التي يعمد إليها المسؤولون عندنا لترتيب أولويات وطن يعيش ما يقارب ثلث سكّانه تحت وطأة الأمّية الأبجدية، التي تُخرج سبعة ملايين ونصف المليون فوق سنّ الخامسة عشرة من المواطنين من دائرة فهم القراءة، بله الحصول على نصيبهم من التحصيل العلمي. إذ مَن الأوْلى بالعناية والاهتمام، الاستثمار في المجال الرياضي والبنايات التي لا تشيّد إلا من أجل حبّ الظهور، أم الاستثمار في العنصر البشري الذي لولاه ما قامت للدول المتقدّمة قائمة؟
وقد يغضّ المرء الطرف عن الحالات المتردّية التي توجد عليها مؤسّسات التعليم الابتدائي والثانوي، إذ زرت من المدارس والثانويات العمومية في مختلف المدن المغربية ما أقنعني أن التقهقر المسجّل بين الأمس واليوم هو تحصيل حاصل، ولكن أن يرى المرء ذلك التهميش كلّه، والإهمال جلّه، يطاولان مؤسّسةً جامعيةً مثل كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالدار البيضاء، التي تعتبر واجهةً رسميةً للتعليم العالي بالبلد، فذلك ما لا يستطيع استساغته من له ذرّة واحدة من العقل السليم. وقد سبق لي أن زرت مدينة إيكس أون بروفانس في فرنسا، التي تعتبر مجمّعاً لجامعات وكلّيات فرنسية عديدة، فانبهرت انبهاراً شديداً لما شاهدته عيناي من جمال في المعمار وروعة في التنظيم وسحر في الزينة والتشجير، إذ كانت جميعها من الداخل بنايات مرصوصة لا ترى فيها عوجاً ولا أَمتاً، ومن الخارج جنان فيحاء تتنافس بينها في النضارة والبهاء عبر أشكال لا حصر لها من الورود والزهور. أمّا العشب المشذّب بعناية فائقة، فقد وجدته بهجةً للناظرين، ترتاح بالتملّي فيه عيون الطلبة والطالبات، وتغتسل نفوسهم في ألقه ممّا علق بها من وعثاء الدراسة والتحصيل. وكأن ذلك الديكور الفردوسي الخلاب، الذي تجده بالمناسبة طابعاً عاماً للجامعات في البلاد التي تحترم نفسها في أفريقيا وآسيا وأوروبا وأميركا، وحتى في بعض أقطار الوطن العربي، ما وُضع إلا لتتجدّد بسحره طاقات المحصّلين على العلم، وتشحذ إرادتهم على مواصلة النهل من معين الدراسات ونور المعرفة.
ثمة إهانة للجامعة في المغرب بدءاً من إهمال المؤسّسات التعليمية، وانتهاءً بتبخيس العمل الأكاديمي وجعلهما في قاع سلّم الاهتمامات
سيقول قائل، لم المقارنة مع شساعة الفوارق؟… الأمر بسيط جدّاً، لو توفّرت الإرادة وقويت العزيمة. فقد عرفت أستاذاً للفلسفة، كلّما انتقل من ثانوية إلى أخرى تبعته الخضرة وسارت في ركابه الزهور والورود. إذ كان "دينامو" يجمع حوله الأساتذة والتلاميذ، فيعبّئهم ويزرع فيهم الحماسة لإقامة أوراش للصباغة والتشجير في الساعات الفارغة، وأيام الإجازة الأسبوعية، مستعيناً بماله الخاص، وتبرع بعض أطر الثانوية وآباء التلاميذ. إنها حالة معزولة لا تمثّل سوى قطرة من بحر، لأن إصلاح التعليم لن يقوم على المبادرات الفردية، وإنما هو مشروع سياسي ضخم ينبغي أن تتوافر له الإرادة السياسية والاستراتيجية الناجعة والميزانية الكافية، وما الحالة المتردية التي توجد عليها كلّية الآداب تلك بالدار البيضاء، وغيرها من المؤسّسات التعليمية العمومية، التي صدمنا أخيراً لمّا سمعنا عن احتضانها أحد منعدمي الضمير، المنتمي إلى أحد الأحزاب التي فرّختها وزارة الداخلية، من المتاجرين في الشهادات العليا، إلا دليل قاطع على أن المسؤولين عن هذا القطاع يفكّرون بعقلية أخرى، مفادها أنه ما الحاجة إلى تعليم شعب إن استفاق من غفوته تمرّد على الاستبداد ليكنسه من واقعه؟
كان الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1804) يعتبر الجامعةَ فضاءً للتنوير، ولنشر قيم العقل والتسامح، بل اعتبرها نظيرَ ما تقدّمه من جهود في نشر الحقيقة لذاتها، من دون أن نربطها بأيّ منفعة يمكن تحقيقها. وهو الأمر الذي بنى عليه الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا رؤيته في كتابه "الجامعة غير المشروطة"، حين دعم حقّ الجامعة في الدفاع عن نفسها ضدّ كلّ أشكال التسلّط والسلطة، الذي يبدو أنها في الحالة المغربية تتعمد إهانة الجامعة بدءاً من إهمال المؤسّسات التعليمية، وانتهاءً بتبخيس العمل الأكاديمي وجعلهما في قاع سلّم الاهتمامات، في بلد أكثر ما يفخر به احتضانه لأوّل مؤسّسة جامعية في التاريخ العربي والإنساني، هي جامعة القرويين، التي تكفّلت أعباء تأسيسها سيدة اسمها فاطمة الفهرية في منتصف القرن التاسع الميلادي، ليخلف من بعدها خَلف أضاعوا العمران عِلماً ومؤسّساتٍ، وقبلها ضيّعوا الإنسان تربيةً وتعليماً.