لماذا يلجأ نظام السيسي لصفقة الغاز الضخمة؟ ومن يدفع الثمن؟
في ظل أزمة اقتصادية خانقة وتراجع حادّ في إنتاج الغاز المحليّ، تستعد الحكومة الانقلابية لإبرام صفقة ضخمة لاستيراد الغاز الطبيعي المُسال، هي الأكبر في تاريخ البلاد، مع ما لا يقلُّ عن ست شركات طاقة عالمية لتوريد أكثر من 160 شُحنة حتى منتصف 2026، في خطوة يرى مراقبون أنها تحمل أبعاداً سياسية واقتصادية متشابكة، وتطرح تساؤلات جوهرية: لماذا يلجأ نظام السيسي لهذا الخيار المُكلّف الآن؟ ومن أين ستأتي الدولة بالتمويل؟ وهل يتحمل المواطن المصري عبء الفاتورة في صورة أسعار باهظة وانقطاعات كهرباء أشد خلال شهور الصيف؟.
أزمة إنتاج مُزمنة منذ الربع الثالث من 2023، بدأ إنتاج الغاز المحلي في مصر بالتراجع من ذروته البالغة 7.2 مليارات قدم مُكعّبة يومياً إلى نحو 4.4 مليارات فقط، في وقت تتجاوز فيه الاحتياجات الفعلية 6.2 مليارات، ما خلقَ فجوة يومية تُقدّر بـ1.8 مليار قدم مُكعّبة.
ومع ضعف الاستثمار في التنقيب وتراجع صادرات الغاز المُسال بنحو 35%، تزايد اعتماد الدولة على الاستيراد لتلبية الطلب المتنامي، لا سيما خلال أشهر الصيف التي تشهد ارتفاعاً كبيراً في استهلاك الكهرباء بسبب موجات الحر.
صفقة بمليارات الدولارات: إنقاذ أم مخاطرة؟
بحسب وكالة بلومبيرغ، فإن مصر تخوض مفاوضات مع شركات من بينها "أرامكو" السعودية، و"ترافيجورا" السنغافورية، و"فيتول" الهولندية، لتأمين إمدادات الغاز على مدار 18 شهراً إلى 3 سنوات، مع احتمالية التمديد، وبالرغم من أن العقود طويلة الأجل أقل تكلفةً من السوق الفورية، إلاّ أن التزامات بهذا الحجم قد تُمثّل عبئاً إضافياً على موازنة الدولة، التي تعاني من ضغوط غير مسبوقة على الجنيه المصري وارتفاع كلفة الاستيراد.
وفي غياب الشفافية حول تفاصيل التمويل، يُطرح سؤالٌ مِحوريّ: من يدفع الثمن؟ المؤشرات الحالية تُظهر أن الحكومة ربما تمرر جزءاً من الكُلفة إلى المواطنين عبر فواتير الغاز والكهرباء، التي شهدت بالفعل زيادات متتالية خلال السنوات الأخيرة، وهو ما قد يُفاقم الضغوط المعيشية على ملايين المصريين.
هل انقطاع الكهرباء هو المُحرّك الأساسي؟
يبدو أن شبح انقطاعات الكهرباء، الذي خيّم على المصريين في صيف 2023، هو أحد المُحركات الرئيسية وراء استعجال الصفقة، ومع ارتفاع درجات الحرارة المُتوّقعة في يونيو ويوليو، تسعى الحكومة إلى تعزيز قدرات تغوير الغاز عبر وحدات عائمة استوردتها مؤخراً، لتصل الطاقة الاستيعابية الإجمالية إلى 2.25 مليار قدم مكعبة يومياً، غير أن محللين يرون أن هذه الحلول "الطارئة" تعكس فشلاً في التخطيط الإستراتيجي طويل المدى، وتجاهلاً لمسببات الأزمة، وعلى رأسها غياب الاستثمارات الكافية في قطاع الطاقة، وإهمال تطوير الحقول المكتشفة حديثاً.
هل هي صفقة إنقاذ للنظام؟
في توقيت حساس داخلياً وخارجياً، تبدو هذه الصفقة محاولة مزدوجة من نظام السيسي لتجنب انفجار اجتماعي بسبب الانقطاعات، وفي الوقت ذاته تقديم صورة "القيادة المُسيطرة" أمام الشركاء الخليجيين والدائنين الدوليين، لكن الثمن قد يكون باهظاً، ليس فقط اقتصادياً، بل اجتماعياً، إذا ما انعكس على جيوب المواطنين دون تحسّن حقيقي في البِنية التحتية للطاقة أو في مستويات المعيشة.
مستقبل الغاز في مصر: هل هناك أمل؟
تشير تقارير مؤسسات مثل Wood Mackenzie و Rystad Energy إلى أن مصر قد تعود لتكون دولة مُصدّرة للغاز بحلول 2027، لكن ذلك مشروط بإعادة تنشيط الاستثمارات في الاكتشافات الجديدة بشرق المتوسط والبحر الأحمر، وحتى يتحقق ذلك، تبقى البلاد رهينة صفقات استيراد مُكلّفة، في اقتصاد يعاني من نُدرة النقد الأجنبي وتضخم مستمر، وسط غياب واضح للمحاسبة الشعبية والبرلمانية على مثل هذه التوجهات المَصِيريّة.
وفي المحصلة، يبدو أن مصر تدخل مجدداً في دائرة مُفْرغة: من العجز إلى الاستيراد، ومن الاستيراد إلى الدَّين، ومن الدَّين إلى تحميل المواطن كُلفة سياسات لا يُسأل عنها ولا يُشارك فيها.