الأرقام تتحدث عن فاجعة صامتة.. تحويل الإخفاء القسري إلى سياسة ممنهجة في ظل غياب القضاء ودور النيابة

- ‎فيحريات

 

باتت جريمة الإخفاء القسري بزمن المنقلب السفاح السيسي، سلوكًا مؤسسيًا محصنًا بالإفلات من العقاب، في غياب دور فاعل للقضاء، وصمت النيابة العامة، مما يعكس خللًا بنيويًا في منظومة العدالة، ويضع الدولة على مسار تصادمي مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان، وبينما يُطالب المجتمع الدولي بإنهاء هذه الممارسات، تظل الحلول رهينة بإرادة سياسية غائبة، لا تضع كرامة المواطن أو احترام الدستور ضمن أولوياتها.

وفى هذا السياق وفي مشهد يكشف عمق الانتهاكات الحقوقية التي باتت راسخة في بنية النظام الانقلابي، عاد ثمانية مواطنين من أبناء محافظة أسوان إلى منازلهم في 10 مايو/ 2025، بعد اختفاء قسري دام أكثر من سبع سنوات، في واحدة من أكثر الحالات الموثقة التي سلطت الضوء مجددًا على اتساع ظاهرة الإخفاء القسري في البلاد، وسط غياب كامل لدور النيابة العامة وتجاهل تام من السلطة القضائية.

 

العودة المفاجئة التي وثقتها منظمات حقوقية مستقلة، أعادت إلى الواجهة ملفًا بات أحد أبرز ملامح الدولة الأمنية في عهد عبد الفتاح السيسي، حيث أضحى الإخفاء القسري أداة سياسية لإخضاع المعارضين وترهيب المجتمع، تُمارس بعيدًا عن أي رقابة قضائية أو محاسبة قانونية. وتؤكد شهادات مركز الشهاب لحقوق الإنسان، أن المعتقلين الثمانية كانوا قد اختطفوا قسرًا في شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2018، من دون عرضهم على جهات التحقيق أو إعلان احتجازهم، ما يجعل حالاتهم جزءًا من منظومة طويلة من الانتهاكات التي لا تزال طي الصمت الرسمي والتكتم الأمني.

 

ويُعد المواطن جعفر عبده عبد العزيز (44 عامًا)، من أبرز الحالات، بعد أن جرى اختطافه أمام منزله في 30 أكتوبر/تشرين الأول 2018، ليُصبح رمزًا لمعاناة المختفين قسرًا في صعيد مصر، دون أن يصدر أي تعليق من الجهات الأمنية حول مكان احتجازه طوال هذه السنوات.

 

الأرقام تتحدث عن فاجعة صامتة

رغم محاولات طمس الحقائق، تشير الإحصائيات إلى اتساع رقعة الظاهرة؛ إذ وثقت المفوضية المصرية للحقوق والحريات 4253 حالة اختفاء قسري، لا يزال 412 منها قيد الإخفاء حتى اليوم. ووفقًا لتقرير مركز الشهاب السنوي لعام 2023، فإن عدد المختفين قسريًّا من السياسيين فقط بلغ 2465 شخصًا، بينما قُتل 65 منهم خارج إطار القانون.

 

تقرير منظمة العفو الدولية لعام 2024 أكد بدوره تعرض "عشرات الأفراد للاختفاء القسري"، وأشار إلى استمرار "التعذيب والمحاكمات الجائرة وسوء المعاملة". أما وزارة الخارجية الأميركية، فقد وثّقت في تقريرها السنوي لعام 2023 "القتل خارج نطاق القضاء، والتعذيب، والإخفاء القسري، وظروف الاحتجاز القاسية".

 

منظومة الإفلات من العقاب: النيابة متواطئة بالصمت

يشير مراقبون إلى أن النظام المصري لم يكتفِ باستخدام الإخفاء القسري كسلاح ضد المعارضين والنشطاء، بل عمد إلى خلق بيئة قانونية وقضائية تسمح باستمراره، عبر تواطؤ مؤسسي متمثل في صمت النيابة العامة، وغياب أي إرادة قضائية للتحقيق في تلك الانتهاكات الجسيمة، رغم المطالبات الحقوقية المتكررة.

 

وفي 20 فبراير/شباط 2023، أدانت ست منظمات حقوقية محلية فشل النيابة في التحقيق في وقائع الإخفاء القسري، بعد ظهور 40 معتقلاً أمام نيابة أمن الدولة العليا عقب احتجاز استمر لسنوات دون محاكمة أو معرفة أماكن احتجازهم.

 

تهديد للسلم الاجتماعي والأمن القومي

لا تقتصر تداعيات الإخفاء القسري على الأبعاد الحقوقية، بل تمتد لتطال بنية المجتمع نفسه؛ إذ تؤدي هذه الممارسات إلى زعزعة الثقة بين المواطن والدولة، وتُعمّق الانقسامات السياسية والاجتماعية، وتفتح المجال أمام التشدد والتطرف كرد فعل على الظلم وفقدان العدالة.

 

وتُظهر دراسة قُدّمت إلى الفريق العامل المعني بحالات الاختفاء القسري التابع للأمم المتحدة في مايو/أيار 2024، أن حالات الإخفاء القسري في مصر ترتفع خلال فترات الانتخابات، في محاولة لتصفية المجال العام وترويع الأصوات المعارضة.

 

مطلب العدالة: إنهاء الجريمة لا مجرد الإفراجات الرمزية

رغم الترحيب الحقوقي بحالات الإفراج، إلا أن المنظمات تؤكد أن عودة البعض لا يمكن أن تكون مبررًا لاستمرار الجريمة. وقال مركز الشهاب: "هذه الحالات يجب أن تكون مدخلًا لإنهاء الظاهرة بالكامل، لا مجرد تخفيف من وقعها أمام المجتمع الدولي".

 

وحتى الآن، تواصل عصابة الانقلاب إنكار وجود الإخفاء القسري، رغم كل التوثيق المحلي والدولي، في ظل استمرار التضييق على أسر الضحايا، وتهديدهم حال لجوئهم للمنظمات أو الإعلام.