في خطوة تعكس مدى تغوّل المؤسسة العسكرية على مفاصل الدولة المدنية، وتأكيدًا على أن نظام المنقلب عبد الفتاح السيسي بات يتعامل مع مصر وكأنها "ضيعة" خالصة للعسكر، أقدمت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة – التابعة لوزارة الإسكان – على توجيه خطابات رسمية لشركات المقاولات والتطوير العقاري والاستثمار الزراعي، تُلزمهم فيها بدفع "رسم تحسين" باهظ، يصل إلى 1500 جنيه عن كل متر مربع، لمجرد وقوع أراضيهم بالقرب من الطرق التي أنشئت أصلاً بأموال دافعي الضرائب.
هذه الإتاوات، المفروضة تحت ستار "مقابل تحسين"، تطبق على جانبي طريق القاهرة – الإسكندرية الصحراوي حتى عمق كيلومتر واحد، وتتناقص تدريجيًا لتصل إلى 500 جنيه في نطاق العمق من 3 إلى 7 كيلومترات. وتشمل قرابة 3700 كيلومتر من الطرق التي أُعلن سابقًا تخصيص أراضيها لصالح الجيش، بما يعادل نحو 15 ألف كيلومتر مربع، في واحدة من أكبر عمليات الاستحواذ العقاري في تاريخ الدولة الحديثة.
اللافت أن هذه الرسوم لا تذهب لصالح وزارة المالية أو الدولة المدنية، بل إلى شركة الطرق الوطنية التابعة للجيش، وبقرار مباشر من السيسي، الذي أصدر تعليمات بتحصيل 50% من قيمة الرسم مقدمًا، وتقسيط الباقي على ثلاث سنوات بلا فوائد، في صورة أقرب إلى "الجباية" منها إلى التخطيط العمراني.
الأمر لا يتوقف عند الطرق، بل يمتد إلى الأراضي الزراعية، حيث يُفرض 15 ألف جنيه عن كل فدان بجوار طريق القاهرة – الإسكندرية، ونصف هذا المبلغ على طريق وادي النطرون – العلمين. القرار شمل كذلك أراضٍ واسعة بمدن الشيخ زايد والسادس من أكتوبر، وبعضها من أنشط مناطق التطوير العمراني غرب القاهرة.
التمكين العسكري في مجال الأراضي لم يكن وليد اللحظة، فالسيسي أصدر في يناير 2023 قرارًا جمهورياً بتمليك الجيش كيلومترين على جانبي 31 طريقًا رئيسيًا، وهو ما سبق أن فعله في 2016 على 21 طريقًا تحت ذريعة "أهمية استراتيجية". بهذه القرارات، صار الجيش هو المالك الأول للأراضي ذات القيمة الاستثمارية في مصر، متفوقًا على الحكومة والمستثمرين والقطاع الخاص، بل ومحصنًا قانونًا ضد أي مساءلة أو تدخل.
ويطرح هذا الوضع سؤالًا مصيريًا: هل عادت مصر إلى عصر المماليك، حينما كانت الطرق والأراضي والجبايات بيد العسكر؟ وهل صار المرور داخل الوطن بحاجة إلى إذن وإتاوة من جيوب المواطنين لخزائن العسكر؟
في دولة يُفترض أنها جمهورية، أصبحت السيادة الفعلية على الأرض والسوق والعقار للجيش، بينما يكتفي المواطن بدفع الفاتورة.. من ضرائبه، ومن حريته، ومن مستقبله.