في زمن الانقلاب المستبد، لا تبحث حكومة عبد الفتاح السيسي عن جذور الأزمات، بل تفضّل الطريق الأسهل: تجريم المواطن، وسجنه، وفرض الغرامات الخيالية عليه، بينما تظل الأسباب الحقيقية للأزمة خارج أي مساءلة. هكذا جاء تعديل قانون الكهرباء الجديد، الذي أقره مجلس الشيوخ بنظام الانقلاب العسكرى، ليكشف مرة أخرى منطق الحكم القائم على القمع المالي قبل القمع الأمني.
القانون الذي يفرض الحبس لمدة لا تقل عن عام، وغرامات تبدأ من 100 ألف جنيه وقد تصل إلى مليونين، لا يستهدف “مافيا سرقة الكهرباء” كما تدّعي الحكومة، بل يوجّه سيفه مباشرة إلى المواطن المنهك، الذي يعيش تحت وطأة فواتير متضخمة، ودخول هزيلة، واقتصاد يُدار لمصلحة مؤسسات الجيش والشرطة لا لمصلحة المجتمع.
وزعم وزير الشؤون النيابية بحكومة الانقلاب محمود فوزي إن "الهدف من تعديل قانون الكهرباء ليس فقط تغليظ العقوبة، وإنما توفير الحماية للمواطن الملتزم، وعدم تحميل خزانة الدولة المزيد من الأعباء، من خلال التوسع في حالات التصالح للمخالفين".
وعن احتكار وزارة الكهرباء الخدمة، قال فوزي إن "قانون حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية لا يسري على المرافق العامة للدولة، ومعظم الحكومات حول العالم تنتج الكهرباء لأهداف اجتماعية، وليس بغرض احتكار الخدمة من الناحية الاقتصادية"
انتقادات للقانون
ورفض رئيس حزب التجمع السيد عبد العال مشروع القانون، وقال إن "الحكومة بمثابة المحتكر الوحيد لخدمات الكهرباء ومياه الشرب، سواء من حيث التسعير أو التكلفة، في حين لا يملك المواطن بديلاً عن الالتزام بالسداد"، مضيفاً أن "تشديد العقوبات سيطاول المواطن البسيط الذي قد يلجأ إلى توصيل مخالف للكهرباء في منزله، وذلك لأسباب اقتصادية واجتماعية عديدة". وطالب الحكومة بكشف آليات تسعير خدمات الكهرباء، والإعلان بوضوح عن حجم الإيرادات، ونسب الإنفاق على الأجور والمكافآت للعاملين في وزارة الكهرباء، مشدداً على أهمية معالجة الوضع الاحتكاري أولاً، قبل فرض أو تغليظ العقوبات إزاء المخالفين.
وقال النائب عن حزب العدل محمد جامع إن "العقوبات المقترحة في تعديل القانون لم تراع تراجع القوة الشرائية لدى المواطنين، ومعاناتهم من موجة ارتفاع الأسعار"، ودعا الحكومة إلى "إعداد تشريع جديد لحماية مرافق الدولة، من دون الجور على حقوق المواطنين".
من يسرق الكهرباء فعلياً؟
السؤال الذي تتهرب منه الحكومة: من الذي يحصل على الكهرباء مجاناً؟
الإجابة معروفة لكل سكان الأحياء الشعبية والراقية على السواء:
منافذ الجيش، وأندية الشرطة، ودور القوات المسلحة، ونقاط التفتيش، والمقار الأمنية المنتشرة في كل شارع وحي، لا تدفع كهرباء، ولا مياه، ولا تتحمل أي كلفة تشغيلية.
هذه الفواتير تُرحَّل ببساطة إلى سكان الحي نفسه، عبر شركات الكهرباء والمياه، ليُطلب من المواطن تعويض “الدولة” عن استهلاك لم يستهلكه.
والنتيجة كارثية:
متوسط فاتورة الكهرباء التي كانت في حدود 300 جنيه قبل انقلاب يوليو 2013، قفزت إلى ما يقارب 3 آلاف جنيه شهرياً في كثير من المناطق، في وقت لا يتجاوز فيه الحد الأدنى للأجور 6 آلاف جنيه، بينما يعيش ملايين أصحاب المعاشات على أقل من 3 آلاف جنيه شهرياً.
أي منطق اقتصادي أو أخلاقي يبرر ذلك؟
تجريم العجز لا معالجة أسبابه
بدلاً من وقف هذا النهب المقنن، أو إخضاع مؤسسات الجيش والشرطة لقواعد المحاسبة نفسها التي يُخضع لها المواطن، اختارت الحكومة تشديد العقوبات، ورفع العصا الغليظة في وجه المجتمع.
فالقانون الجديد لا يكتفي بتغليظ العقوبة على من يوصل الكهرباء بشكل مخالف، بل يجرّم حتى من “علم ولم يُبلّغ”، في محاولة لخلق مجتمع مراقبة وخوف، لا مجتمع عدالة.
اللافت أن الحكومة تعترف، على لسان نائبة وزير الكهرباء، بأن نسبة الفاقد تبلغ 20%، وأن السرقات تمثل نحو 10% منها. لكنها تتجاهل عمداً الجزء الأكبر من الفاقد السياسي والاقتصادي الناتج عن إدارة القطاع بعقلية أمنية، وتحميل المواطن تكلفة الفشل، والديون، والمشروعات العملاقة عديمة الجدوى.
قانون لحماية الدولة… لا المواطن
تسوّق الحكومة القانون باعتباره حماية “للمشترك الملتزم”، بينما الواقع أنه يحمي خزانة دولة منهكة بالفساد وسوء الإدارة، على حساب مواطن لا يملك بديلاً عن الدفع أو السجن.
فالدولة تحتكر الكهرباء والمياه، تحدد السعر، وترفعه متى شاءت، ثم تعاقب من يعجز عن السداد، من دون أي شفافية حقيقية حول تكلفة الإنتاج، أو حجم الإيرادات، أو أوجه الإنفاق داخل الوزارة.
حتى الانتقادات البرلمانية الخجولة التي تحدثت عن الاحتكار، وتراجع القوة الشرائية، لم تغيّر شيئاً من جوهر المشهد: سلطة لا ترى في المواطن سوى ممول قسري، ومتهم محتمل، يجب إخضاعه بالقانون إذا لم يُخضعه الفقر.
قبل العقاب… أوقفوا الابتزاز
الأولى بحكومة تدّعي الإصلاح أن:
توقف تحميل المواطنين فواتير الجيش والشرطة.
تخضع كل الجهات، بما فيها السيادية، لنظام محاسبي شفاف.
تعالج الفقر لا أن تجرّمه.
تراجع سياسات التسعير قبل تشديد العقوبات.
أما أن تُشرِّع قانوناً يُرهب الناس، ويهددهم بالسجن والغرامات في ظل انهيار القدرة الشرائية، فهذا ليس إصلاحاً، بل فصل جديد من فصول الحكم بالجباية والقمع، في زمن انقلاب لا يرى في المواطن شريكاً، بل عبئاً يجب إخضاعه.